ترامب والمكارثية الجديدة

(1)
«المكارثية القديمة»؛

تنسب المكارثية للنائب الجمهورى عضو لجنة العمليات فى مجلس الشيوخ الأمريكى عن ولاية «ويسكونسن» (لمدة 10 سنوات من 1947 إلى 1957) «جوزيف مكارثى» (1908 ـ 1957) الذى قاد حملة عدائية، منذ منتصف الأربعينيات، ضد كل المنتقدين للسياسات السائدة من سياسيين ومثقفين وأدباء وفنانين.

وقامت فلسفة الحملة على تنقية الولايات المتحدة الأمريكية من أى شخص تراوده أفكار تميل ليس إلى اليسارــ فقط ــ وإنما إلى الفكر الليبرالى، وذلك بالدفاع عن أى حقوق مدنية، أو مصالح العمال، أو يدعو إلى توزيع عادل للموارد، أو يدافع عن حقوق الملونين. وكانت التهمة الحاضرة هى الاتهام بالشيوعية. ومن ثم لابد من مقاومة هذه الأفكار وعزل هؤلاء مجتمعيا، انطلاقا من أن الانتصار على الاتحاد السوفيتى وإنهاء مشروعه أو ما وصفه «بالكابوس الأحمر»، يبدأ من الداخل الأمريكى، وذلك بمقاومة من يبشرون به. مورست «المكارثية» على أوسع نطاق- خلال حقبة من الزمن- دون تقديم أدلة، فكانت مرحلة مريعة فى تاريخ أمريكا الحديث انتهت بإدانته وإدانة مرحلة وصفت بمرحلة «الرعب الكبير» «Great Fear»...

(2)

من «الرعب» الكبير إلى «الخطر» الكبير؛

مقولة ترددت خلال الأشهر القليلة الماضية عما آلت إليه الولايات المتحدة الأمريكية فى عهد «دونالد ترامب». ليس، فقط، بسبب عبارته- التى اتسمت بالتعالى: العرقى، والجنسى، والقومى، والجيلى، والسياسى- التى اتهم فيها النائبات الشابات الديمقراطيات اللواتى فزن فى انتخابات التجديد النصفى الأخيرة، بقوله: «النائبات الشريرات الاشتراكيات» و«إنهن لسن مواطنات أمريكيات». وإنما، بالإضافة إلى ما سبق، لمواقفه: أولا: العرقية؛ من غير الأمريكيين الوافدين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وثانيا: العنصرية؛ من الملونين السود. وثالثا: البرجماتية المُفرطة؛ من الاتجاهات الفكرية التى تنحو نحو العدالة والكرامة الإنسانية، ومن المنتقدين عموما للرئيس «ترامب»...وفى هذا المقام استعاد «ترامب» «المكارثية» بنفسه...كيف؟

(3)

«ترامب المكارثى»؛ بالمتابعة البحثية الدقيقة- واستخدام منهج تحليل المضمون- للتغريدات المتتالية التى يطلقها ترامب... تبين كيف أنها تتصف «بالعنصرية» من جهة. ومن جهة أخرى تستعيد روحية اتهامات مكارثى التاريخية- قبل سبعين سنة. فعلى سبيل المثال يقول فى إحدى تغريداته التى وصفت «بالعُنصرية» فى تجمع للجمهوريين فى جرينفل بكارولينا الشمالية (الثرية البيضاء البروتستانتية) ما نصه: «هذه الأيديولوجيات اليسارية تريد تدمير دستورنا والقضاء على القيم التى قامت على أساسها أمتنا الرائعة»... وأضاف: «اليوم نجدد تصميمنا ونرفض أن تصبح أمريكا دولة اشتراكية». وفى هذا السياق، تحدث ترامب عن النائبات الديمقراطيات اللواتى من أصل عرقى غير أمريكى، حيث نصحهن «بالعودة من حيث جئن»؛ بالرغم من أنهن مواطنات أمريكيات يحملن الجنسية الأمريكية ومارسن العمل السياسى وحق المواطنة وترشحن على قوائم الحزب الديمقراطى ونجحن فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى فى سابقة تاريخية، بالإضافة إلى أنهن يعبرن- بامتياز- عن قيم وتوجهات وتطلعات جيل الشباب الأمريكى فى الألفية الجديدة... بيد أن ذكر النائبات بالاسم فى إطار اتهامات بالانتماء للاشتراكية وعدم شرعية مواطنتهن... يستعيد- فى الواقع- «الزمن المكارثى»، ويجدد التعاطى غير الديمقراطى مع المخالفين... ما يؤدى ليس فقط إلى حالة من «الرعب» الكبير فى نموذجها المكارثى التاريخى... بل إلى ما هو أكثر من ذلك، أى بلوغ وضعية «الخطر» الترامبى الداهم... فماذا نقصد بذلك؟

(4)

المتشددون يستبيحون الإدانة؛

لقد ظلت الإدانة المكارثية للمختلفين فى إطار المؤسسات الرسمية والإعلام. بينما استبيحت الإدانة فى عهد ترامب. وأصبحنا نرى المتشددين البيض يعطون لنفسهم الحق فى ممارسة الإدانة العُنفية المباشرة حيال المختلفين فى أروقة الشوارع. وترصد الدراسات ما يقرب من 300 عملية إطلاق نار تمت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تجاه الملونين من قبل ما وصفته «بجماعات الكراهية البيضاء» والتى تورط يوما ترامب بدعمها... كيف وما تداعياته... نتحدث لاحقا...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern