الحق في السعادة

(1)
ما السعادة؟.. سؤال محورى رافق حياة الإنسان منذ بداية التاريخ. كان محل اهتمام حقل الفلسفة منذ أفلاطون وأرسطو حتى يومنا هذا. ومع مرور الزمن وتعقد الحياة الإنسانية. أخذت حقول المعرفة المختلفة تقترب من «مبحث السعادة» لفهم أسباب السعادة، ودوافعها، وما الذى يحول دون تحققها،...، إلخ. لذا وجدنا علم النفس والأدب والفنون تحاول أن تمس معنى السعادة، وإمكانية ممارستها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. بل وجدنا كثيرا من الدول، مع مطلع الألفية الجديدة، تقارب «السعادة» فى إطار مراجعة كل منها لتجربتها التنموية، من جهة. والبحث عن نموذج اقتصادى جديد من جهة أخرى. ومن ثم كيف يمكن «الاستدراك» فى مجال السياسات العامة لوضعهاــ أى السعادةــ من ضمن الأهداف المجتمعية والاقتصادية والسياسية المطلوب تفعيلها فى إطار تجديد دولة الرفاه التنموية باعتبارها «حقا» إنسانيا.

(2)

ودعمت الأمم المتحدة هذا التوجه من خلال وضع معايير للسعادة يتم قياسها فى كل دولة من الدول الأعضاء فى المنظومة الدولية. على أن يتم نشر نتائج القياسات فى تقرير سنوى بات معروفا «بتقرير السعادة». وقد صدر التقرير الأول منه فى 2012. ومن أهم ما يمكن رصده فى هذا المقام هو تجاوز هذا التقرير، والسياسات الحكومية المختلفة وخاصة فى أوروبا الشمالية، للمقاربة الفلسفية والنفسية إلى ما يمكن تسميته بالمقاربة «المواطنية».. حيث اعتمدت السياسات والتقارير على معايير متعددة من عينة ما يلى: نصيب المواطن فى الناتج المحلى الإجمالى، ومدى ما تقدمه الحكومات من خدمات لمواطنيها وخاصة الصحة، وغياب الفساد ليس فى الوسط الحكومى فقط وإنما فى عموم المجالات المجتمعية، ورعاية المواطنين لبعضهم البعض، وحرية اتخاذ القرارات الشخصية، وإلى أى مدى يتمتع المواطن بالثقة، والرضا، والأمان، والتمكين من أجل الإبداع والإنتاج فى أفضل ظروف ممكنة، ومدى الاستمتاع العادل بالبيئة المحيطة،...إلخ.

 

وحول هذه المعايير يتم وضع السياسات الحكومية فى بعض الدول. كما يتم قياس «السعادة» وفقهها فى كل دول العالم.. وفى الحالتين أصبح واضع السياسات والذين يقيمونها يلتمسون شرعية النصوص الدستورية التاريخية: الأمريكية، والفرنسية، الداعية إلى الحق فى السعى إلى السعادة. وإلى أن هدف المجتمعات الحديثة هو تأمين «السعادة العامة» لجميع المواطنين دون تمييز. ولا يفوتنى أن أشير إلى أن هناك دولا قد بدأت تنص فى دساتيرها على «كفالة السعادة». ناهيك عن دول باتت تضمن توجهاتها التنموية المستدامة قيمة السعادة فى خططها وبرامجها الحكومية.

(3)

وفى إطار «تبنى اهتمامات اجتماعية» بدأ الاقتصاد العالمى، من خلال شركاته، تخصيص نوع من إنتاجها يحقق السعادة لسكان الكوكب فيما عرف «بصناعة السعادة». وهو مجال يحذر منه أحد أساتذة الاقتصادــ هو ويليام ديفيز- من خلال كتاب يحمل نفس العنوان: صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومة والشركات الكبرى الرفاهية (صدر فى 2015 وترجمه مجدى عبد المجيد خاطر عن الإنجليزية فى سلسلة عالم المعرفة فى 2018) ــ لأنه يكشف بالأدلة والتحليل العلمى كيف أصبح «البيزنس العالمى الضخم» (Big Business بحسب الأصل الإنجليزى وليس الشركات الكبرى)، معنى بالاهتمام، لأسباب تتعلق بمصالح ومستقبل الرأسمالية، برفع قدرة مواطنى الكوكب على التصدى للضغوط النفسية والبؤس والمرض. وعليه وضعت الشركات الاقتصادية السعادة موضع الاهتمام من حيث الاختبارات الخاصة برصد أقل التقلبات التى تطرأ على عقول ومشاعر وأدمغة، هؤلاء المواطنين، ومعالجتها وتصورها والتنبؤ بها تحت عنوان كبير هو جعل البشر أكثر سعادة وضمان رفاهة المجتمعات. بيد أن المتابعين فى هذا المقام، يكشفون لنا كيف أن إقدام «البيزنس الضخم» على الاستثمار: بحثا وإنتاجا؛ فى مجال صناعة السعادة هو فى حقيقته جرم لأنه يقوم بتحويل المواطنين إلى مستهلكين. كذلك يجعل السعادة، بعناصرها المختلفة، سلعة لا «حقا».. ما يحول دون تحقيق حلم السعادة: الحق لصالح السعادة: الوهم؛ فى ظل منظومة استهلاكية شرسة... ذلك لأنه ثبت أن ما يقوم به البيزنس إنما فى حقيقته يستهدف التلاعب السلوكى بالبشر. وإخضاعهم لمجموعة من التصورات النفعية والبيولوجية والسلوكية، لسعادة وهمية سريعة وعابرة لا تؤمن سعادة حقيقية للمواطنين.. بل تزيدهم تعاسة


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern