المواطنة الإنسانية

(1)
عقب وقوع الأزمة المالية الأسوأ فى تاريخ الإنسانية، انطلقت مجموعة من المراجعات تتناول دولة الرفاه الغربية فى العموم، والأوروبية خصوصا، بتجلياتها المتنوعة:

أولا: الديمقراطية الاجتماعية؛ وهو النموذج الشائع فى الدول الاسكندنافية حيث تقوم فيه الدولة بتوفير الخدمات لمواطنيها دون تمييز ومن منطق لا سلعى. أى أن هذه الخدمات لا تعد سلعا تباع.

ثانيا: المحافظة الكوربوراتية؛ حيث الخدمات والمنظومة التأمينية مرهونة بقيمتها فى السوق، كما أنها ليست بالضرورة شاملة لجميع المواطنين كما هو الحال فى ألمانيا وفرنسا.

ويرتبط مقدار ونوعية المعونة التى ينتفع بها المواطنون المستحقون بحسب وضعهم الاجتماعى. ولا يستهدف هذا النوع من الرفاهة إلغاء جوانب اللامساواة فى المجتمع بل الحفاظ على الاستقرار الاجتماعى والتماسك العائلى.

ثالثا: الليبرالية؛ حيث تغلب فيه على خدمات الرفاهة طابعها التجارى فى السوق، كما فى أمريكا، (ويشار إلى أن بريطانيا قد تراوحت بين الأخذ بالنموذج الديمقراطى الاجتماعى فى الستينيات من القرن الماضى، ثم تحولت إلى النموذج النيوليبرالى مع تولى تاتشر الحكم).

رابعا: الإعانية؛ وهو النموذج الذى ساد فى الحالة الاشتراكية ودول العالم الثالث التى اتبعت نموذجا تنمويا لم يستطع الصمود كثيرا.

(2)

أتاحت هذه المراجعات ليس فقط التناول «التقنى» أو الفنى للبرامج الـتأمينية المقدمة للمواطنين فى إطار المواطنة أو منظومة الحقوق الدستورية والقانونية المتسقة مع النصوص الدستورية. وإنما فتحت نقاشات عميقة ذات طابع فلسفى وفكرى عن البعد الإنسانى للمواطن. عن الحالة الذهنية والنفسية للمواطن فى المجتمع الرأسمالى المتعثر فى إتمام وعوده. والذى لم يحقق إلا «لا مساواة» متصاعدة بين القلة الثرية والكثرة المواطنية. وتم اكتشاف أن منظومة الحقوق التى ناضل من أجلها المواطن ــ أى لم تُمنح له ــ تاريخيا: المدنية، والسياسية، والاقتصادية/ الاجتماعية، يجب استكمالها «بالمواطنة الإنسانية» «Human Citizenship»؛ إذا جاز لنا صك هذا المصطلح.

(3)

ومن ضمن الحقوق الإنسانية يأتى: الحق فى السعادة، والحق فى شغل مساحة عادلة، والحق فى بنية جسمانية سليمة، والحق فى ممارسة الرياضة، والحق فى وجبة مكتملة العناصر الصحية، والحق فى المعرفة، والحق فى اقتصاد أخضر، والحق فى اقتسام عادل للموارد، والحق فى مقاومة الرأسمالية المنفلتة بلا قيود أو حدود فى «إنضاب» الثروات الطبيعية، الحق فى توفر وسائل المتعة المختلفة، والحق فى التقدير بصفة عامة ولأصحاب الإنجازات بصفة خاصة، والحق فى الحماية الاجتماعية بمعناها المركب الذى يعمل على تمكين المواطن/الإنسان،...، إلخ. بالإضافة إلى ما بات يُعرف بـ«حقوق المنبوذين» (طبقة البريكاريات أو المنسيين والمهمشين). أو الانتباه إلى حقوق أصحاب الاحتياجات «المهملة» و«المؤجلة» على السواء. ولا يفوتنا فى هذا المقام، أن نشير إلى التطور المبدع فى المقاربات الفكرية السياسية والدستورية ــ وبالطبع العملية ــ الذى لحق بمنظومات الحقوق الرقمية، وحقوق أصحاب الاحتياجات الخاصة، وحقوق الملكية الفكرية،...، إلخ.

(4)

فى إطار ما سبق، تنمو «المواطنة الإنسانية»؛ أو بلغة أخرى، ما أصبحت أميل إلى وصفه «بالنزعة المواطنية» «Citizenizm»؛ وهى النزعة المتحررة من التعاطى مع المواطن باعتباره «زبونا سياسيا» أو «تابعا» أو «مستهلكا» أو «سلعة» أو «متلقيا لمنح إغاثية أو إعانية أو خيرية»؛ وإنما بالأساس: «إنسان ــ مواطن»: يناضل من أجل التحرر من سطوة أبنية الاستبداد التاريخية: الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والدينية، والاجتماعية، والمعرفية.

ويسعى بدأب إلى شراكة محترمة ومقدرة فى الثروة والسلطة... ذلك لأن لعبة الإقصاء التام/ الحضور المشروط لم تعد مقبولة مواطنيا وقبل ذلك إنسانيا... وعليه تجد العقل الإنسانى المعاصر يطرح تساؤلات جديدة تثير حوارات ثرية تتضمن مراجعات جدية تجدد معنى الإنسانية والمواطنة فى آن واحد. والأهم تجمع بينهما...

ونواصل فى الأسبوع القادم الحديث عن حق من حقوق المواطنة الإنسانية هو «الحق فى السعادة».


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern