«الجغرافيا السياسية ما بعد الحديثة»

(1)
«لا بد أن تتناسب رؤى واستراتيجيات الجغرافيا السياسية الراهنة مع الزمن الرقمى؛ فلا يمكن أن نطبق الاستراتيجيات التى كانت سائدة فى القرنين التاسع عشر والعشرين، زمن الاستعمار المباشر وغيرالمباشر والثورات الصناعية الثلاث الكبرى المتعاقبة الآن. لا بأس من تعلُّم هذه الاستراتيجيات والاسترشاد بها، ولكننا فى حاجة إلى ابتكار الجديد فى زمن الثورة الصناعية الرابعة».

كلمات باتت تتردد بقوة فى أكثر من منتدى استراتيجى وملتقى أكاديمى ومرجع معتبر.

والأهم أن هناك اجتهادات دؤوبة على المستويين السياسى والأكاديمى فى تأسيس ما تم التوافق على تسميته «جغرافيا سياسية ما بعد حديثة» Postmodern Geopolitics، أى استحداث استراتيجيات مبتكرة فى مجال الجغرافيا السياسية، تتجاوز ما كان متعارفًا عليه فى أزمنة سابقة.

وحول هذا الموضوع خصصت الدورية المتخصصة فى الشؤون الاستراتيجية لأوروبا الشرقية «أوروبا الشرقية الجديدة» عددها الأخير الصادر فى إبريل 2019.

«2»

تتفق المقاربات التى تتناول موضوع «الجغرافيا السياسية ما بعد حديثة» على أن الأعوام الأخيرة من القرن العشرين قد شهدت تحولات جذرية فى المنظومة الدولية، اتسمت «بالدرامية»، ما أدى إلى تغيرات مادية على الأرض، تجلت فى أشكال عدة:

«الحروب الممتدة النظامية وغير النظامية، ومن ثم خلق موازين قوة جديدة، وبزوغ دول جديدة وتنافسات متجددة بالتالى، وانحسار القوى التقليدية وصعود أخرى، وتغير أشكال التحالفات الاستراتيجية، وفق الجغرافيا والثروة الكامنة، وليس بالضرورة وفق الأيديولوجيا أو القومية أو الثقافة... إلخ.

فلم يعد من الممكن اختزال الصراع فى منطقة حيوية ما على أنه موضع صراع بين الشمال والجنوب، أو بين المعسكرين الشرقى والغربى، أو بين العالمين الإسلامى والمسيحى.

كما لم تعد السيطرة تستدعى «القوة الصلبة»؛ ذلك لأن هناك «قوة ذكية» Smart Power و«قوة حادة»Sharp Power، تمكّن من السيطرة والحصول على أقصى منافع بأقل جهد ممكن بفضل تقنيات الزمن الرقمى فى شتى المجالات، ليس فقط فى المحيط الجغرافى القريب، وإنما لأبعد نقطة جغرافية يمكن الوصول إليها لتحقيق استراتيجيات الجغرافيا السياسية.

«3»

فلقد أسقطت العولمة من جهة، والزمن الرقمى من جهة أخرى- كل الأسوار والعوائق بين الدول، وأصبحت الجغرافيا السياسية ممتدة لا يعوقها شىء.

هكذا تمتد الصين إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية: الفناء الخلفى ــ تاريخيا ــ للولايات المتحدة الأمريكية.

كما تتوسع روسيا فى مناطق حيوية كانت حكرًا على غريمتها الأيديولوجية فى وقت من الأوقات.

وتعليقا على ذلك يقول أحد المنظرين فى حقل الجغرافيا السياسية ما نصه: «من الآن فصاعدا، بعد أن ولّى عصر كولومبوس، بات علينا أن نتعامل مع نظام سياسى محكم، يتسم بنظرة شمولية تغطى الكرة الأرضية كلها، ذلك لأن كل إرهاصة للقوى الاجتماعية فى أى ركن من أركان المعمورة لن يقتصر صداها على مدار محيط نقطة انفجارها، وإنما سوف يتجاوزها إلى أقاصى الأرض».

بلغة أخرى، ما يجرى فى فنزويلا سيكون محل اهتمام شديد للصين وروسيا، ولن يكون أبدا شأنًا أمريكيًا محضًا، كما حاول ترامب أن يفعل، وأظنه فشل.

«4»

الخلاصة: لم يعد عالم اليوم فى زمن الكشوفات الجغرافية؛ حيث هدف الجغرافيا السياسية هو نقل الثروات إلى المركز الذى تنطلق منه هذه الكشوفات.

كما تجاوز العالم عصر الثورة الصناعية؛ حيث الإنتاج الصناعى المتمركز فى موضع بعينه، وكان جل أهداف الجغرافيا السياسية هو فتح أسواق والسيطرة على إدارتها لاستيعاب نواتج الصناعات المتنوعة... إلخ.

فلقد أصبح العالم فى علاقة تشابك (عولمى اقتصادى/ مالى وتقنى رقمى) غاية فى التعقيد.

ويواكب هذه العلاقة اكتشافات بحرية وأرضية تنم عن ثروات طبيعية مذهلة.

ما يدفع إلى التجديد الشامل: استراتيجيات الجغرافيا السياسية من حيث إعادة النظر فى مفاهيمها، ومناهج مقاربتها، سواء من منظور الاقتصاد السياسى أو العلاقات الدولية. وأنماط التحالفات. وابتكار آليات توازن وردع وصد جديدة... ونواصل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern