الفلسفة وترامب (1)

«إنه شىء مرعب لليل عميق»..

(2)

بهذه العبارة الشعرية للكاتب المسرحى والشاعر الفرنسى «جان راسين» (1639 ـــ 1699)؛ يبلور الفيلسوف الفرنسى «آلان باديو» (82 عاما ــ والذى يعد أحد أهم الفلاسفة الأحياء فى عالم اليوم)؛ رؤيته حول الرئيس الأمريكى «ترامب» والذى عبر عنها ــ تفصيلًا ــ من خلال محاضرتين ألقاهما فى نوفمبر 2016 بجامعتى «كاليفورنيا» بلوس أنجلوس، و«تافتس» ببوسطن على التوالى. ونشرتا أخيرا، منذ شهرين، فى كتاب بعنوان: «ترامب».. ويقدم «باديو»- فى المحاضرتين/ الكتاب ــ رؤية فلسفية للحالة الترامبية. وذلك من خلال العملية الانتخابية التى حولها ترامب «ليلها إلى أمر لا يطاق»... وعن «ماهية الذى لا يطاق»، فلسفيًا، تمحورت كلمة «باديو.. فما جرى فى هذا الليل العميق الذى سيمتد بنجاح ترامب يستحق التأمل فى ذاته. كما يستحق الإدراك بالمعنى الفلسفى لما سيؤول إليه الوضع السياسى فى الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، وفى العالم من جانب آخر. كما يتطلب الاستجابة «بعقلانية» لعديد الأسئلة من عينة: أولا: «ما الذى استوجب العالم المعاصر أن يدخل فى هذا الليل ومن ثم هذا الرعب؟». وثانيا: «كيف لشخص مثل ترامب أن يُنتخب رئيسا للقوة الأعظم فى العالم؟». وثالثا: «كيف يمكن مواجهة ما جرى فى الليل العميق المُرعب؟»..

(3)

بداية لابد من العودة إلى العام 1980 حيث انطلاق «الانتصار التاريخى للرأسمالية العالمية». والتى ساهم فيها إ خفاقات: التجربة الروسية، والصينية. واختفاء ــ تقريبا ــ للرؤية الجمعية للاقتصاد وللقوانين الاجتماعية. فلقد روج هذا الانتصار إلى انه لا يوجد إلا «خيار كونى وحيد» ولا بديل له. إنه خيار: «السوق».. إنه الطريق الوحيد أو المسار الإجبارى، بلغة أخرى، التى على الإنسانية أن تعبر منه. وهو أمر يتناقض مع ما عرفته البشرية منذ الثورة الفرنسية حيث هناك دوما «خيار متاح» لرفض الهيمنة، وضمان تحقيق العدالة. ولاشك أن ما يشهده العالم من حراكات قاعدية فى العقد الأخير وخاصة فى فرنسا مؤخرا ــ وغيرها ــ بعد أن تفاقمت «اللامساواة» فى صورة غير مسبوقة على مدى التاريخ الإنسانى، هو محاولة جادة وحقيقية لإعادة التوازن الطبيعى بين البشر فى إمكانية الاختيار بين الرؤى والأفكار والمشروعات...

(4)

لقد أضعفت الماكينة الرأسمالية النخبة السياسية لصالح «الخيار الواحد». وبات فرضه مسؤولية ــ ليس البرجوازية التاريخية أو الأحزاب ــ وإنما الكرتلات وشبكات المصالح. والسياسيون الجدد الأقرب إلى قادة المافيات مثل «بيرلسكونى» فى إيطاليا. وساركوزى فى فرنسا. وهو نموذج رجل الأعمال السياسى أو السياسى الممثل لرجل المال والذى يستدعى معه نموذجا سياسيا تاريخيا يستدعى «فاشية» الثلاثينيات. ولا يعنى ذلك استنساخ النموذج القديم وإنما يستدعيه مع اختلافات. لعل أولها: هو القبول بالعملية الديمقراطية. وثانيها: ممارسة ما تطلبه الآلة الديمقراطية من مهام. ثالثها: لا يوجد عدو تتطلب خصومته مثل الاتحاد السوفيتى. رابعها: ترويض كل عناصر المقاومة المحتملة. إنها بحسب ــ باديو ــ نوع من «الديمقراطية الفاشية» (Democratic Fashism).. وفى هذا السياق ينجح «ترامب».

(5)

وهكذا وجد المواطن الأمريكى ــ العالمى ــ نفسه فى جدل لا مفر له بين: أولا: وحشية الرأسمالية الراهنة وعنفها الأعمى. وثانيا: تحلل النخبة السياسية الكلاسيكية والطبقة المهيمنة والطليعة وظهور الديمقراطية الفاشية. وما سيؤول إليه الحال. هل سنتحرر من هذه الوضعية أم لا. وفى هذا السياق هل يمكن التحرر من ترامب والترامبية التى باتت تمثل النموذج الأعلى لهذه الحالة أم لا؟ والذى عكست الحملة الانتخابية إلى أى مدى يتسم أداؤه «بالنشاز». ثالثا: الإحباط الشعبى والخوف من المستقبل. رابعا: غياب استراتيجية سياسية مستقبلية شاملة من خصوم الظاهرة الترامبية. أو شيوع «سياسة اللابدائل».. ما يعنى هزيمة الأمل التاريخى العظيم بتحقيق مجتمع العدل.. ولكن هل يعنى هذا الاستسلام.. هل هناك بديل؟.. نواصل مع باديو فى تقديم رؤيته الفلسفية لمواجهة الليل المرعب لزمن ترامب.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern