رحل «طيب تزيني» وبقي مشروعه الفكري الجدلي

بعد هزيمة 1967، انشغل الفكر المصرى والعربى بسؤال محورى هو: لماذا هُزمنا؟. فى هذا السياق تعددت محاولات الإجابة وزواياها المختلفة. فبعضها عنى بالمراجعة التاريخية مثل: لويس عوض فى «تاريخ الفكر المصرى الحديث». وأحمد صادق سعد فى: «التكوين الاجتماعى والاقتصادى لمصر منذ الفراعنة وحتى محمد على». وبعضها الآخر ركز على إعادة فهم الشخصية المصرية وهويتها مثل: جمال حمدان فى «شخصية مصر». ومحمد العزب موسى فى: «وحدة تاريخ مصر». والبعض الثالث اهتم بإعادة فهم العقل العربى، فكانت مساهمة زكى نجيب محمود الرائدة: «تجديد الفكر العربى». كما كانت هناك مراجعات اقتصادية معتبرة مثل التى أنجزها عادل حسين فى مجلديه: «الاقتصاد المصرى من الاستقلال إلى التبعية». وشكلت هذه الإجابات مرجعا فكريا ثريا لانطلاق العديد من المشروعات الفكرية التى من شأنها أن تسهم فى «بعث النهوض وتجاوز التخلف والتأسيس لتقدم جديد».

(2)

ومن المشروعات الفكرية المبكرة «الجريئة»، و«العميقة»، و«الضخمة» فى آن واحد. المشروع الفكرى الذى أنجزه المفكر السورى «طيب تزينى» الذى رحل عن دنيانا فى 18 مايو الماضى. فلقد شرع فى كتابة عمل فكرى متعدد الأجزاء (اثنى عشر جزءا) تحت عنوان: «مشروع رؤية جديدة للفكر العربى منذ بداياته وحتى المرحلة المعاصرة». كان مشروعه «مزيجا مُضفرا» بين الوقائع والأفكار التى جرت على أرض الواقع وتبلورت فى قيم وتوجهات عبر العصور. قاربهما وهو يأخذ فى الاعتبار السياق الاقتصادى وطبيعة العلاقات المجتمعية التى واكبتهما. وكانت مقاربته «نقدية». ساهمت فى تفسير كل من: أولا: التاريخ؛ بوقائعه وتفاعلاته وصراعاته التى جرت فى لحظة زمنية معينة. وثانيا: «التراث»؛ وما أنتجته من أفكار إيجابية وسلبية فى الماضى عبر عصوره المتعاقبة. والأهم كيف يمكن لنا، فى الحاضر، من خلال، ما يطلق عليه «تزينى» الوعى الاجتماعى؛ أن نتواصل أو ننقطع عن التاريخ بما يفيد التقدم من جهة. وفى نفس الوقت نمارس الوجه الآخر من المهمة المركبة، فى تنقية «التراث» من قيمه السلبية المعطلة وتحريره من الأساطير المعوقة للإبداع والاجتهاد والتجديد من جهة أخرى.. بهذا المعنى، وبحسب طيب تزينى، «يبرز الوعى الاجتماعى بمثابة ناظم وضابط لمصداقية الدلالات التاريخية والتراثية للوعى التاريخى والآخر التراثى».. فى هذا الإطار، جاء عمله/ مشروعه تأسيسيًا وشاملًا وممتدًا.

(3)

تناول «تزينى» على مدى أجزاء مشروعه الفكرى (بصفحاته الألفية) ما يلى: الجذور التاريخية والمعرفية للفكر الفلسفى المادى والمثالى. ومعالم المشكلة الفلسفية فى شكلها المبكر اليونانى. والله، يهوديا ومسيحيا. والفكر العربى الإسلامى الوسيط فى حلقاته الأساسية: مجتمع ما قبل الإسلام (الجاهلى) ومعالم الحياة الفكرية فى المجتمع القبلى البطريركى (الأبوى). فالإسلام الباكر ومساره التاريخى. ثم المجتمع العربى الإسلامى وتحول البنية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للمجتمع العربى. والعوامل الأساسية فى تكوين علم وفلسفة فى المجتمع العربى الإسلامى الوسيط وبدايات الفكر الفلسفى العربى ـ الإسلامى. إطلالة تفصيلية تحليلية على الفلاسفة: الكندى، والفارابى، وابن سينا، وابن طفيل، وابن رشد وابن خلدون، والمقريزى. وأخيرا استفاض فى دراسة بنية النص الدينى وكيفية قراءته وتأويله. كما أفرد جهدا كبيرا فى تناول «التصوف العربى الإسلامى».. ومن يقرأ ما كتبه «تزينى» يجد أنه أمام كتابة رفيعة المستوى، متعددة المستويات: فلسفيا، وتاريخيا، وأنثروبولوجيا، وسوسيولوجيا، ودينيا. وصارمة منهجيا تنم عن وعى تام بمناهج البحث الجديدة. ورغبة فى التحرر من المنهجيات الغربية (الاستشراقية)، والنمطية المحلية لصالح منهجية مستقلة.

(4)

لقد استفدت جدا من قراءته مبكرا (منتصف الثمانينيات). وأستطيع أن أقول إن مشروعه: «الجرىء والعميق والضخم»، بالرغم من كل الملاحظات التى تعرض لها، يمثل تحديًا فكريًا كبيرًا. ولا غنى عن الاشتباك معه ـ مجددًا ومع غيره من المشروعات الفكرية ــ إذا ما أردنا بلورة أى مشروع نهضوى تقدمى مستقبلى.. رحم الله الرجل، فلقد كانت مجلداته «مشروع عمره» وكان طموحه أن ينقل بها العقل العربى من السكون إلى الثورة على التخلف.. وكم أتمنى أن يعاد نشر عمله التاريخى الكبير طبعة شعبية على غرار الطبعة الشعبية «للثابت والمتحول» لأدونيس.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern