«رؤى جديدة للنظام الدولى»؛ هو أحدث كتاب لعالم الاجتماع السياسى البروفيسور برتران بادى (1950). صدر مطلع هذا العام وفيه يقوم بمراجعة شاملة لكثير من المسلمات التى تواترنا على ترديدها فيما يتعلق بالعلاقات الدولية وطبيعة القوى الفاعلة فيها. ففى البدء يؤكد على أن العالم يعيش زمن ما بعد القطبية الثانية. أى ما بعد الحرب الباردة حيث الصراع الجوهرى فيها كان بين المعسكرين الشرقى والغربى. وبالرغم من الصراعات، والحروب، والعمليات الإرهابية، التى تنتشر فى الكوكب بكثافة وتذكرنا بالتى كانت تجرى بين القوتين الأعظم: أمريكا والاتحاد السوفيتى فى الحقبة «الباردة». إلا أن «بادى» يشير إلى أن ما يثور حاليا يتم «خارج الإطار الثنائى القطبية». وأن تعبير «المجتمع الدولى» لم يعد يحظ بالاحترام التاريخى المتعارف عليه. حيث بات الأمر أقرب إلى «الفوضى الدولية».. لماذا؟.
(2)
فنحن فى لحظة تاريخية، يقول برتران بادى: «تعمل فيها قطاعات شعبية عريضة على التحرر من كثير من المفاهيم القديمة Old Concepts» التى أتت بها دول النظام العالمى الذى تأسس فى عام 1648 فيما يعرف بشرعية وستفاليا. حيث قام النظام العالمى على نشوء الدول القومية والسيادة الوطنية لكل دولة. ووضع قواعد «تشاورية وتداولية بينها». إلا أن هذا التشاور كان دوما يواجه «بالهيمنة، والتنافس، واستخدام القوة» من البعض تجاه البعض الآخر. ودوما كانت الشعوب هى من تدفع ثمن هذه المواجهة وتتحمل تداعياتها.. الأكثر، أن القائمين على هذه الدول أداروا الشأن الداخلى لدوله من خلال ما يصفه برتران بادى: «بالنادى الأوليجاركى Oligarchs’ Club» (أى حكم الأقلية، حيث تتمحور السلطة السياسية حول قلة تربطها علاقة الدم، أو الثروة، أو القوة،...، إلخ، أو كل ذلك معا). وبسبب هذا النادى تبلورت «نقيصتين»، ظلا إلى يومنا هذا، هما: الأولى: إقصاء المجتمع، وإهمال تعدديته. وتعرض لتاريخ أوروبا فى القرن التاسع عشر منذ «مترنيخ» ومحاولات هذه المجتمعات أن تفتح مساحة للتواجد. الثانية: تقسيم العالم بين قلة متميزة والباقين فى تصنيف أدنى. ولكن سرعان ما ظهرت على السطح «المسألة البلقانية»، و«النمساوية المجرية»، وغيرها كتعبير رافض للمسرح السياسى القائم...على هذه الأرضية انطلق «برتران بادى» يستعرض التطور التاريخى للنظام الدولى من القرن ال19 وإلى الآن.
(3)
بالإضافة إلى «النقيصتين» السابقتين: الهيمنة، والاستعمار. جاءت العولمة (وكانت ذروتها الأزمة المالية فى 2008) لتسقط كل «آليات الحماية» التى كانت تحمى النظام الدولى بجوهره الثابت (الأوليجاركى) وأشكاله المتنوعة (التعددية، والثنائية، والأحادية). كذلك تنكشف الخسائر التى تعرضت لها جموع المواطنين فى كل مكان حتى فى أوروبا المتقدمة. وفى محاولة لعلاج الآثار السلبية لما سبق، يرصد برتران بادى ثلاثة ردود فعل قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على التوالى: أولا: محاولة بوش الابن والتى وصفها بالمحافظة الجديدة (كانت خليطا من المحافظة الدينية والسياسية). ثانيا: محاولة أوباما والتى عرفت بالليبرالية الجديدة. وثالثا: محاولة ترامب الراهنة أو القومية الجديدة. ومحاولة نشر هذا التوجه. بالاستفادة من البزوغ القوى للقوى القومية فى أكثر من مكان مثل: النمسا من خلال حزب الحرية، وحزب من أجل الحرية الهولندى، والجبهة القومية فى فرنسا،...، إلخ. (راجع مقالنا: يا «فاشيو» العالم اتحدوا ــ أغسطس 2018 تعليقا على محاولة ستيف بانون مستشار ترامب تأسيس مؤسسة لتعبئة الفاشيين فى أوروبا والسيطرة على البرلمان الأوروبى).. والسؤال هل تنجح المحاولة الترامبية؟.
(4)
يجيب برتران بادى «بأن العالم قد تغير». ويجب الانتباه بأن ردة الفعل الشعبية التى تجتاح أوروبا تتسم بأمرين هما: الأول: الإلحاح المفرط فى التنديد بالمؤسسات القديمة الجاثمة وبالنخب القائمة. الثانى: بأنها لا تنحصر فى اليمين القومى فقط وإنما فى تنوع توجهاتها.. والمحصلة لابد من المراجعة الشاملة لأن اللحظة التاريخية من التعقيد الذى تجاوز زمن وستفاليا. ومواطنو هذا الزمن لا يقبلون الإقصاء أو التصنيف الأدنى.. علينا إعادة الاعتبار إلى الإنسان وأضيف المواطن.
■ ■ ■
شكرًا على التواصل الجميل والمقدر للدكتور فوزى فهمى حول مقال الأسبوع الماضى عن كيف يكون «برتران بادى» فى القاهرة ولا يتم الاحتفاء به والاستفادة بعلمه الغزير.