نحو أمريكا أكثر عدلاً واعتدالاً

«يمكننا إنقاذ الاقتصاد، ووضع الرعاية الصحية الشاملة لأمريكا موضع التطبيق، وجعل الأمة بذلك وبالأساس أمة أكثر ديمقراطية.. نعم يمكننا ذلك».. كلمات قدم بها عالم الاقتصاد الحائز على نوبل (2008) «بول كروجمان» كتابه «ضمير شخص ليبرالى: الاقتصاد السياسى لتطور الحياة السياسية والحزبية الأمريكية»، الذى صدرت ترجمته العربية مؤخرا بقلم الخبير الاقتصادى المصرى الكبير «مجدى صبحى» عن المجلس القومى للترجمة ومركز المحروسة. ولقد اعتمد المترجم على الطبعة التى واكبت انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية (2009) والتى لم تختلف عن الطبعة الأولى التى صدرت قبل ذلك بعامين (2007) إلا أنه أضاف مقدمة قصيرة حول مستقبل أمريكا فى ظل ما يمثله «أوباما» من توجهات قادرة أن تجعلها أكثر عدلا: اقتصاديا. كذلك أكثر ديمقراطية: سياسيا. من خلال تبنى «أجندة تقدمية» تفتح آفاقا نحو «تحول درامى تقدمى» للولايات المتحدة الأمريكية.. ويؤسس «كروجمان» رؤيته على كلمتين مفتاحيتين هما: «العدالة» و«الاعتدال».. وحولهما أعاد قراءة التاريخ الأمريكى من منظور الاقتصاد السياسى. وخلص إلى ضرورة أن «تترافق المساواة فى الاقتصاد مع الاعتدال فى السياسة».

(2)

إنها الصيغة التى استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحققها وقت الرئيس «فرانكلين روزفلت»، الذى يعده المؤرخون رئيسا استثنائيا لأنه تولى رئاسة أمريكا فى الفترة من عامى 1933 و1945. ذلك لأنه تولى الرئاسة فى فترة حرجة، ليس بالنسبة لأمريكا فقط وإنما للعالم. فقد كان عليه أن يواجه تداعيات ما عرف بأزمة 1929 الاقتصادية الكبرى أو «الكساد الكبير». كذلك إدارة البلاد زمن الحرب العالمية الثانية.. إلا أنه استطاع إبداع ما عرف بـ«الصفقة الجديدة». وهى الصفقة التى كانت بمثابة تأسيس لشرعية جديدة بين السلطة الرأسمالية التاريخية وبين مواطنيها، وبخاصة الذين ينتمون للشرائح الوسطى والصغرى من الجسم الاجتماعى: العمال، والمزارعين، وصغار الموظفين، والجماعات العرقية. واعتمدت هذه الصفقة على تأمين ضمانات اجتماعية تؤمن المساواة بين جميع فئات المجتمع من جهة. كذلك تيسير الحضور السياسى المتكافئ بين المواطنين الأمريكيين على اختلاف انتماءاتهم الإثنية.. ونظرا لأن زمن الصفقة الجديدة قد تعرض للحصار من قبل «اليمين المحافظ»، بتجلييه السياسى والدينى، الذى سار بالاقتصاد فى اتجاه واقع غير مسبوق من «التنامى التاريخى للا مساواة». و«التزايد الحرج لحدة الاستقطاب المجتمعى»، ما لزم تجديد هذه الصفقة.. فى هذا السياق يدرس «كروجمان» كثيرا من التفاصيل فى المشهد الاقتصادى ــ الاجتماعى الأمريكى عبر التاريخ، وما يجب تداركه وتجاوزه وتصويبه بالنسبة لمساوئ حكم أهل الثروة، ولأحوال العمال غير السعيدة، والتفاوت الكبير فى الدخول وأسبابه، وانهيار الحركة النقابية، وغياب الضمانات الاجتماعية، وعدم التوافق التاريخى على برنامج للرعاية الصحية يستحقه الأمريكيون.. إلخ.

(3)

لذا يطرح «كروجمان» فى كتابه كيفية تجديد «الصفقة الجديدة» ما أطلق عليه: «الصفقة الجديدة- الجديدة» لتجاوز زمن اليمين المحافظ. حيث رأى فى القوة التى شاركت فى الانتخابات الرئاسية قوة مجتمعية جديدة تسعى إلى العدالة الاجتماعية والاعتدال السياسى من خلال «برنامج ليبرالى» يقوم على «التوسع فى شبكة الضمان الاجتماعى، وتخفيض عدم المساواة. ونقطة البداية فى هذا البرنامج: الرعاية الصحية الشاملة. ويفصل رؤيته للرعاية الصحية وللكيفية التى يجب العمل بها ومواجهة العوائق المستديمة أمام تطبيقه.

وبعد، أظن، أن «ضمير كروجمان الليبرالى» نجح- مع كتابات أخرى ـ مثل كتاب الصحفى ميشيل جرانوالد «الصفقة الجديدة- الجديدة» (2012)، أن تؤثر فى الكتلة الشابة اللافتة حول بيرنى ساندرز، والتى توصف باليسار الأمريكى الجديد، لحمل رؤية كروجمان من أجل أمريكا أكثر عدلا واعتدالا.. تحية للعزيز مجدى صبحى رئيس تحرير تقرير «الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية» لترجمته هذا الكتاب القيم والمعتبر.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern