فى منتصف الثمانينيات، كنت مسؤولا عن قطاع التنمية فى إحدى الهيئات الدولية العاملة فى مصر. وكان يعمل معى أحد الأطباء حديثى التخرج. لم يجد فرصة مناسبة فى مجال تخصصه. فاتجه إلى العمل التنموى محاولا أن يوظف الطب كمكون فى العملية التنموية. ولم يمض وقت كبير حتى جاء يقول لى إنه واتته فرصة عبر ما عُرف وقتها «بصندوق الدعم الاستشارى لإفريقيا» (وهو صندوق أسسه الراحل الكبير الدكتور بطرس غالى آنذاك لإرسال المهنيين المُجيدين إلى دول القارة الإفريقية).
وقد كان ذهب صديقى الطبيب إلى أنجولا فى ذروة الحرب- آنذاك- وعمل فى ظرف خطير. وحصل على خبرة ميدانية فى مجال ما يعرف «بجراحات الحروب» فتحت له آفاقا فى حياته المهنية لاحقا. ليس له فقط بل لآلاف غيره.. وكانت، يقينا، تجربة مختلفة عن تجربة العمل فى أماكن أخرى.. لكن مع منتصف التسعينيات تراجعت هذه التجربة بدرجة أو أكثر. وأتمنى أن أكون مخطئا فى ذلك.
(2)
وكانت هذه التجربة ــ الذكية ــ محاولة لملء الفراغ الذى تركته مصر منذ فترة ما بات يُطلق عليه مرحلة «التحرر الوطنى» التى انطلقت مع تأميم قناة السويس فى 1956 وحتى مطلع السبعينيات. وهى الفترة التى يختزلها البعض فى الدعم السياسى الناصرى لحركات الاستقلال الإفريقية فقط. بالرغم من أنها شهدت، أيضا، الموجة التصديرية الأولى لتجربة التصنيع الوطنية المصرية المستقلة من: أدوية، وسلع معمرة، وسيارات... إلخ. ما جعل الامتداد المصرى نحو الجنوب أو تجاه القارة الإفريقية ضرورة استراتيجية ومجالا حيويا لا غنى عنه (وهو ما درسناه تفصيلا فى دراستنا: العروبة فى المرحلة الراديكالية).
(3)
ولكن «إهمالنا لإفريقيا خيبة كبيرة كلفنا المليارات»؛ بحسب الدكتور فاروق الباز فى حديثة المهم لمجلة صباح الخير الشابة المتجددة (26 مارس 2019).
فلقد نسيت مصر إفريقيا منذ 30 أو 40 سنة مضت، وكان من المكن أن نكون فى قلبها بالربط بين مرسى علم وكيب تاون فى جنوب إفريقيا مع الكثير من الممرات العرضية. بما تعنيه ذلك من حيوية اقتصادية وتجارية وبشرية متواصلة.. لذا فإن العودة الرسمية لإفريقيا لا بد أن يعقبها عودة على جميع الأصعدة: الاقتصادية، البشرية، والرياضية، والفنية، والثقافية، والعلمية... إلخ، فى إطار رؤية استراتيجية متكاملة العناصر.. وفى هذا المقام، نشير إلى العدد المميز من دورية أحوال مصرية (الذى يرأس تحريرها الدكتور أيمن السيد عبدالوهاب) الذى خصصته لمقاربة «هوية مصر الإفريقية». حيث أولا: أصل (العدد) لهوية مصر الإفريقية. وثانيا: أرخ ووثق للعلاقات التاريخية بيننا وبين القارة الإفريقية منذ الفراعنة. وثالثا: إلقاء الضوء على ركائز بناء الهوية الإفريقية الواقعية والعملية.
(4)
وقد استوقفتنى أربع أوراق مهمة وذلك كما يلى: أولا: كيفية العمل على منهاج العمل الذى وضعه الاتحاد الإفريقى تحت عنوان: «أجندة 2063»، واعتبارها «إطارا استراتيجيا للتحول الاجتماعى ــ الاقتصادى للقارة خلال خمسين عاما بدءا من العام 2013» (سنة الذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية). ويتضمن هذا الإطار حزمة من المبادرات والخطط والبرامج التى تصب فى اتجاه تنمية القارة تنمية مستدامة(راجع دراسة د. محمد عبدالكريم).. وثانيا: دراسة الأخت الفاضلة الدكتورة أمانى الطويل حول «مستقبل التعاون بين مصر وإفريقيا». كذلك دراسة الدكتور محمد يوسف حول «التكتلات الاقتصادية». ودراسة الأخ الدكتور خلف الميرى حول تاريخية الصراع الدولى على إفريقيا. وظنى أن هناك حاجة ماسة للاستفاضة حول الحديث عن ما سبق وأكثر. والانشغال الاستراتيجى ــ الدائم ــ بأفكار «أجندة 2063»، وآلياتها، وأثرها. وإخضاع كل ما سبق للتقييم والتصويب والتطوير. والأهم الدراسة المستمرة لطبيعة الصراعات والأطماع القائمة والمحتملة.. مصر الإفريقية ضرورة نهضوية وتنموية واستراتيجية ومصيرية و...!