.. من الانتماء الأولى إلى المجال العام

تفجرت كوامن القوة فى الكيان المصرى، فى صور شتى، فلم تبق ناحية من نواحى النشاط إلا شملها النهوض والتجديد. وتجلى للناس أن كيان مصر كان ينطوى على عبقريات وملكات صافية خلاقة فى كل ميدان، وكأنما كانت مصر ماردا فى قمقم حبيسا...فلما زال السداد خرج المارد وحجب عين الشمس.

تمثل هذا المارد فى خروج المصريين من مختلف الفئات والطبقات والأجيال من دوائر انتماءاتهم الأولية إلى مساحة تسعهم جميعا على اختلافهم. فلقد أدركوا أن بناء الأوطان لن يتأتى ما لم يخرجوا من خندقتهم فى دوائر الانتماء الأولية لرحابة الوطن الجامع والراعى والحاضن لهم ولدوائرهم النوعية المتنوعة. فالتقدم لا يتحقق لدائرة على حساب أخرى...

وقد أثبتت الأحداث الاقتصادية والسياسية والتفاعلات المجتمعية على أن كل دائرة نوعية تصورت أنها يمكن أن تحظى بتقدم ما بمعزل عن باقى الدوائر كانت واهمة. وبعض من حظى بامتيازات خاصة، سواء من ولى النعم أو المحتلين، قد عانى الأمرين لاحقا. فلقد اكتشف هؤلاء، من جهة، بأن الامتيازات ما هى إلا «رشاوى» لتحييدهم أو ليتغافلوا عما يجرى للوطن من نهب اقتصادى منظم على كل المستويات (راجع مقالنا الأسبوع الماضى : ثورة 1919: المواطنة النضالية من أجل الاستقلال. حيث رصدنا عشرة أسباب لقيام ثورة 1919 تكثفت على مدى 40 سنة من 1879 إلى 1919. وهو ما وصفه أحد المؤرخين بعقود الخنق المنظم الكبير للمصريين جميعا دون استثناء). كما أثبتت التحالفات، من جهة أخرى، التى أقامها البعض وعقدتها بعض الطبقات مع السلطة الإثنية المتعالية على المصريين والوافدة إلى الوطن المصرى سواء: الأسرة المالكة أو الاحتلال السافر. وهى التحالفات التى كانت تسفر عن تدمير الذات الوطنية لأصحابها من المصريين الذين تورطوا فيها. وقد وقعت كل من طبقة أثرياء الريف من جانب والرأسمالية الصناعية البازغة ــ ومعهم تجار المدن ـ مطلع القرن العشرين، فى طريق النهوض يمكن بلوغه بالتحالف أو القبول بالامتيازات مع السلطتين الاستبدادية والاستعمارية. إلا أن طبقة أثرياء الريف عانت من الاستيلاء على أقطانهم بسعر بخس. كما عانى الصناعيون الناشئون وتجار المدن من إغراق السوق المصرية بالصناعات والسلع الأجنبية. ما اضطر صناعات كثيرة ناشئة إلى اغلاق مصانعها وورشها. ( لمزيد من التفاصيل يراجع: لهيطة فى تاريخ مصر الاقتصادى، وصبحى وحيدة فى أصول المسألة المصرية، وفوزى جرجس فى دراسات فى تاريخ مصر السياسى منذ العصر المملوكى، ومحمود متولى فى نشأة الرأسمالية المصرية، وعبد الخالق لاشين فى سعد زغلول وثورة 1919).

فى الوقت نفسه، كانت الفئات النوعية المختلفة خاصة التى تنتمى للطبقات الوسطى والدنيا من الجسم الاجتماعى المصرى تعيش فى وضع غاية فى السوء. فلقد كان هناك تقييد على تعيين المتعلمين من المصريين. كما كانت السلطة الاستبدادية/الاستعمارية تستولى على المحاصيل والدواب المملوكة للفلاحين قسرا. وتفرض السخرة على فقراء الفلاحين. بالإضافة إلى تدهور أحوال العمال المصريين. بالإضافة إلى استراتيجية التفتيت التى لجأ إليها الاحتلال لقطع الطريق على الحركة الجامعة للمصريين من: فلاحين، وعمال، وطلبة، ومهنيين، وكبار ملاك الأرض، وطبقة صناعية ناشئة، وبورجوازية صغيرة، ..،إلخ.

وفى المحصلة، أدت سياسات الحكم العائلى المغلق الوافد ومن ورائها السياسة الاستعمارية إلى سوء أحوال البلاد، على جميع الأصعدة، والعباد على تنوعهم. ما وحد جميع مكونات الوطن المصرى على اختلافاتها الطبقية، والجيلية، والدينية، والإثنية، والجنسية برباط الوطنية المصرية. وتحركت تمارس مواطنيتها النضالية خارج خنادق الحياة الفرعية أو دوائر ارتباطاتها الأولية...لتؤسس بذلك «للمجال العام» الوطني/السياسي/المدنى...وهو المجال الذى تنطلق منه حركة المواطنين على اختلافهم متفاعلة ومشتبكة «كقوى مواطنية متنوعة»، من خلال التحرك الجمعى الحر من أجل مطالبهم المشتركة. وذلك من خلال أشكال عدة فى المجال العام الجديد من خلال: المظاهرات، والاحتجاجات، والانتظام فى التجمعات العمالية، والفلاحية، والمهنية، والفئوية كالتى نظمها الموظفون، والتحركات النوعية كالتى انخرط فيها طلبة المدارس الثانوية، وخرجت فيها المرأة، والتكوينات الحداثية من جمعيات، ونواد، وروابط، وصالونات ثقافية، ودوريات مستقلة،...،إلخ...إنها نتاج اقتناص الحرية وممارسة الفعل الثورى الوطنى فى إطار المجال العام الذى قاموا بتأسيسه ليكون جامعا بين جميع المواطنين على اختلافهم. ومساحة حرة لحركتهم من أجل المصلحة العامة لكل المصريين وليس لمصلحة أولية دون غيرها.

إذن، لم يكن خروج المصريين الجمعى للمطالبة بالاستقلال إلا إعلانا عن انطلاق الدولة الحديثة التى تعتنق الوطنية ــ فى غير خصومة مع الدين ــ ويربط بين مواطنيها رباط المواطنة على اختلافهم. ويمارسون حقوقهم الوطنية والسياسية والمدنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ليس من خلال خنادق الانتماء الأولى لأن ذلك يعنى أننا مازلنا قابعين فى غياهب دولة الطوائف أو الدولة ما قبل الحديثة، وإنما من خلال دائرة الانتماء الأوسع أو المجال العام بمفهومه وتجلياته وآلياته الحديثة والمتجددة...

وهكذا حضر المارد المصرى بحسب حسين مؤنس فى دراسات فى ثورة 1919 ــ بتنويعاته المتعددة فى إطار الشراكة الوطنية لتجديد روح مصر(يمكن قراءة عودة الروح لتوفيق الحكيم، وحكاية ثورة 1919 لعماد أبو غازي) ودورها الفاعل المبدع فى الداخل والخارج، والإعلان عن زمن جديد...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern