شهداء 1919 ومصداقية السردية الثورية

يفتح لنا الاحتفال بالمئويات نافذة نطل منها على الفصول التاريخية المتنوعة مباشرة، دون وسطاء يقومون باختزال أو تشويه أو إخفاء جانب أو أكثر من هذه الفصول لسبب أو لآخر. ما يفتئت على مصداقية السردية التاريخية الثورية وأبطالها الحقيقيين.

حيث تعودنا فى كتابة سردياتنا التاريخية- خاصة الثورية- على كتابتها فى سطور عابرة ومن منظور النخبة الحاكمة لا الحركة المواطنية. بهذا المعيار يصبح «دقلديانوس» الحاكم الوافد الذى سفك دم المصريين فى القرن الثالث الميلادى بطلًا بحسب السردية المذكورة فى أحد مناهج التاريخ فى وقت من الأوقات- وأظن لا تزال، لست متأكدا-بالرغم من أن السردية التاريخية الميدانية المواطنية تشير إلى أن «الدم كان للركب» كناية عن العنف المُفرط الذى طال المصريين آنذاك. ما دفع بوضع تقويم مصرى يكرم ضحايا الحكم آنذاك عُرف «بتقويم الشهداء» أو التقويم القبطى. وذلك فى عام 284 ميلادية.. ولولا هذا الإجراء، ربما، ما عرفنا الجانب الأهم من هذه السردية التاريخية وما أدركنا حقيقتها وتفاصيلها المخفية...وهناك الكثير من الأمثلة التى تصب فى هذا السياق.

(2)

إن مصداقية السردية تعتمد على تقديم وقائعها الميدانية الخفية أو المحجوبة- عمداـ لصالح فرد، أو شبكة مصالح، أو أيديولوجيا.. وتوفير تفاصيلها التى تؤمّن معرفة مقدمات الحدث الثورى، وأدوار الفاعلين فيه، وما ترتب عليه من «تأسيس جديد» فى الواقع. ومن ثم تحرير الحدث ووثائقه وشهاداته ومذكراته والدراسات التى تناولته من مقاربات مختلفة من الحجب والإخفاء. هكذا تتم «بلورة/ صياغة السردية التاريخية التى تصنع التغيير» (راجعShaping History: Narratives of Political Change؛ 2007).. لذا لابد للمرء أن يسعد بهذا الاحتفاء بمئوية ثورة 1919. خاصة مع توغر مصادر كثيرة تتيح رؤية الحدث الثورى بتفاصيله المتعاقبة. والأهم إدراك أن الثورات هى عملية مجتمعية مركبة Complicated Societal Process؛ لا بد لها من توفر قوى مجتمعية «مواطنية» تناضل أو تمارس «المواطنة النضالية»، من أجل إحداث التغيير المأمول الذى تتشكل تفاصيله فى «المخيال المواطنى الثورى» كى يصبح حقيقة ملموسة.

(3)

وهذا التغيير لم يكن لينتج إلا بعد صراع الإرادات المتعددة أو الأطراف الفاعلة فى العملية التغييرية. وهو صراع يدور بين قوى تتقاطع لا تعد ولا تحصى. بعضها يقاوم التغيير كليا، وبعضها يدفع به لإحداث تغيير جذرى. وبينهما من يميل إلى إحداث التغيير المتدرج فى البنى القائمة. ولكن ما إن يتبلور الزمن الجديد بعناصره القيمية والفكرية والمؤسسية، ما يعنى حسم صراع الإرادات لصالح الجديد، نسبيا. فإن الزمن الجديد يكتسب الشرعية، ومن ثم القيمة التاريخية. قد يحدث الخلاف وتتعثر العملية الثورية. إلا أن هذا لا ينفى أن تغييرا قد حدث بغض النظر عن مآلاته اللاحقة.

(4)

فى هذا المقام، يأتى كتاب «شهداء ثورة 1919» (كتبه مجموعة باحثين تحت إشراف الدكتور نبيل عبدالحميد سيد أحمد، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصرـ 1984)، ليستكمل المشهد الثورى من خلال إلقاء الضوء على الشهداء، وضحايا المحاكمات التعسفية والعنف الميدانى التى عقدها، وقام بها الاحتلال وحلفاؤه للمصرين الثوريين فى عموم مصر كلها: القاهرة والإسكندرية والوجهان البحرى والقبلى.. وقد عكست الدراسة الحضور المواطنى الشامل للمصريين على اختلافهم فى كل بقاع القطر المصرى. ما عكس حضورًا عابرًا للطبقات، والأديان، والأجيال، والجنسين.. وكما جاء فى مقدمة الكتاب: «كانت ثورة 1919، ثورة الشعب كله، فقد كان وراء لظاها وقود وطنى تجلى فى كل أبناء الوطن- بريفه وحضره وحقله ومعهده.. مسلميه ومسيحييه، ورجاله ونسائه، والمهنيين والعمال والفلاحين والطلبة.

ولمَ لا؟ وقد عاشوا فى ظل: خنق منظم (بحسب المؤرخ محمد صبرى السوربونى لأربعين سنة منذ الخديوِ إسماعيل فى 1879، على المستويات الاقتصادية، والسياسية والثقافية والاجتماعية. ما استوجب التضحية والشهادة من أجل الوطن.. ومصداقية السردية التاريخية وضرورة أن نفخر بها وبما أسسته.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern