(1)
«الأصالة» و«الزيف»؛ قيمتان تحكمان كل شىء في حياتنا اليومية. فهناك، دوما، الأصيل الذي يتسم بالعراقة، والعمق، والنقاء، والبقاء. ما يزيد من قيمته مع مر الأيام..
وهناك، في مقابله الزائف الذي يتسم باللمعة والبريق. ما يجعلنا نُغش فيه بعض الوقت ولكن ليس كل الوقت. وأظن أن معيارى الأصالة والزيف يمكن تطبيقهما على القيم السائدة، وعلى ما ينتجه العقل الإنسانى من أفكار، وما يصنعه الإنسان من إبداعات مادية.. في هذا السياق يأتى البحث العلمى. فهناك ما هو أصيل: جدى، وعميق، ورصين، ومتماسك، ومسنود منهجيا ومرجعيا، وثرى بالإشراقات.. وهناك على النقيض، البحث العلمى الزائف.
(2)
فلقد أتيحت لى منذ سنوات أن أشارك في مناقشة أكثر من أطروحة علمية. كذلك تحكيم بحوث علمية بعضها عن مدى جدارته بالنشر في مراكز بحثية. وبعضه الآخر في سياق تنافسى. بالإضافة إلى متابعتى لكثير من الأبحاث سواء عند إعدادها أو بعد نشرها. وأشد ما أزعجنى- دون أن أعمم- هو غلبة الزيف على هذه الأبحاث من حيث: أولا: اتباع بنية بحثية نمطية ذات صياغات إكليشيهية. وجدت بعضها متكررا في عدد من الأبحاث وكأنه منقول من «كتاب خارجى حول إعداد البحوث».
ثانيا: عدم الإلمام بالأدبيات الرئيسية السابقة على عمل البحث والتى في الأغلب الأعم تكون أجنبية وتمثل موجة معرفية متقدمة للغاية.
ثالثا: اللجوء لمصادر ثانوية هي نفسها تفتقد الأصالة. وفى المقابل إهمال مصادر أساسية لا يستقيم البحث العلمى دونها.
رابعا: الاقتباسات السافرة (الاقتطاعات الممتدة) من عدد محدود من المصادر. حيث يشير الباحث مرة واحدة لمصدر الاقتباس. ويستمر في الاقتباس لعشرات الصفحات دون أن يكرر الإشارة. فتتداخل النصوص. ومن ثم لا يستطيع القارئ أن يميز بين النص الأصلى والنص الجديد.
خامسا: تزيين البحث بمصادر أجنبية محدودة من قبيل «سد الخانة».
سادسا: الإفراط في «الإسناد الافتراضى»، أو الإكثار من الاعتماد على المصادر الإلكترونية دون «فرز أو غربلة» للأصيل والصحيح والصائب والمعتمد وفق المعايير العلمية المنضبطة.
سابعا: الإكثار من ذكر أسماء مراجع دون أن يكون لها توظيف من أي نوع في البحث. ما يبدو أنها منقولة من بحوث سابقة.
ثامنا: عدم العناية بالربط بين مقدمات البحث ومخرجاته.. وبالأخير نكون أمام عملية بحث علمى زائف. نتيجته بحوث ذات أفكار ونتائج نمطية وعادية وغير ذات فائدة. لا تحمل جديدا. أو بلغة أخرى، بحوث لا تتسم بالأصالة البحثية.
(3)
ولعل أكثر ما يلفت النظر في هذه البحوث هو الإحالة والاقتباس اللذين يقوم بهما الباحث لدراسات عربية لباحثين تعانى أبحاثهم من عيوب البحوث الزائفة من حيث: قدمها، وتخلفها العلمى/الزمنى عما بلغه العقل البشرى من موجات معرفية غاية في التقدم.. ما أدى إلى فجوة معرفية تتسع باطراد بين ما ركنا إليه من معرفة ــ نظنها ــ ساكنة وبين ما يقوم الآخرون به من تجديد معرفى دائم التطور والأصالة.. هذا لا يمنع من أن هناك بحوثا أصيلة لكنها فردية واستثنائية. ما يؤكد ترهل المؤسسات البحثية التي من مهمتها الحفاظ على أصالة البحث العلمى لا في شكله فقط وإنما في جوهره بما يصب في النفع العام من جهة. ومن جهة أخرى يحجز لنا مكانا على الخريطة المعرفية الكونية دائمة التجدد.. إن مراجعة ملامح الزيف المذكورة في كثير من البحوث العلمية هو البدء في تأسيس مقومات أصالة علمية جديدة وفق معايير الموجات المعرفية الجديدة النشطة والحية. والتى تتسم: بالمقاربات المركبة، والمعالجات المتعددة المستويات والأبعاد، والمفاهيم والأفكار الألمعية، والتطبيقات الشبكية التي تستجيب لحاجات الإنسان المتنوعة.