أثارت حركات الاحتجاج الأوروبية، أو التى أفضل أن نطلق عليها: «الحركات المواطنية الجديدة» الكثير من ردود الفعل المهمة من قبل النخبة الثقافية بأجيالها، وبألوانها الإبداعية المتنوعة. ومن أهم من شارك فى تحليل طبيعة ودوافع الحركات الاحتجاجية، خاصة «السترات الصفراء» ومن ثم مستقبل أوروبا؛ شيخ الفلاسفة وعلماء الاجتماع الأوروبيين: الفرنسى «إدجار موران» (98 عاما). ففى وصفه «لحركة السترات الصفراء» قال بأنه يحسبها: «ملتقى للغضب، وخيبة الأمل، والإحباط» لعديد الشرائح الاجتماعية من «المتقاعدين، والمزارعين الذين ينتظمون فى تجمع اليمين، والشباب ممن ينتمون للجناح اليسارى الحضرى تحديدا». (اعتمدنا على النص الإنجليزى المنشور فى «نيوز ديكودر»ــ 7 ديسمبر 2018؛ عن الأصل الفرنسى المنشور فى جريدة اللوموند الفرنسيةــ 4 ديسمبر الماضى).
(2)
وقد فتحت كلمات «موران» الباب لمثقفى فرنسا وأوروبا من فلاسفة، وأدباء، ومفكرين، وعلماء اجتماع، وسياسيين (منهم وزراء حاليون) ونشطاء، وفنانين ليدلوا بدلوهم فيما تتعرض له القارة الأوروبية. كما أتاحت لهم حضورا حيا فى المشهد الاحتجاجى العارم الذى يجتاح أوروبا بدرجات وصورة متنوعة. حيث وصفه البعض بأنه «زلزال» أوروبى بكل المعايير. ما أعاد للذاكرة صورة لا يمكن أن تنساها البشرية أثناء ثورة الطلبة فى عام 1968 عندما كان: «فوكو» و«ماركيوز» و«سارتر»، وغيرهم، يتصدرون مسرح الثورة فكرا، وفعلا.
(3)
وبالرغم من أن «موران» يأخذ على حركة «السترات الصفراء» أنها بلا قيادة، وهيكلية، وأيديولوجية، إلا أنه وفى نفس الوقت يشير بوضوح إلى وجود أزمة ثقة فى كل من: المؤسسات، والأحزاب، وفى الديمقراطية المأخوذ بها.. ما يدفعنا، بالضرورة إلى إعادة النظر فى طرق التفكير السائدة حول مجتمعنا، وحضارتنا، وأوجه قصورها، ومآسيها المادية والأخلاقية.. كذلك إعادة التفكير فى جمهوريتنا، حاضرنا وسياستنا (اعتمدنا على ترجمة المثقف العربى محمد الإدريسى عن الفرنسية).
أى أن ما ينقص الحركة، من جهة. لا ينفى تدهور المنظومة السياسية من جهة أخرى. وفشلها فى تلبية حاجات المواطنين. والوفاء بوعود الحقبة النيوليبرالية التى يعتبرها الكثيرون من عناصر «النخبة الثقافية» قد فقدت صلاحياتها. وأن الدولة لم تكن سوى «خادمة للأوليجاركية المرتبطة بالأسواق». مثلما يشير إيمانويل تود صاحب مؤلفات: «ما بعد الإمبراطورية» (2002) و«من هو شارلى» (2015 الذى ترجمه الأخ الدكتور أنور مغيث) و«أصول الأنظمة العائلية» (2007).
(4)
ويحلل «إدجار موران» فى عبارة مكثفة عبقرية الدافع لحركة المواطنين فى فرنسا بقوله: «إن اللامبالاة الطويلة الأمد لمواطنينا تجاه العديد من القيود والإعفاءات التى أُطلق عليها جزافا إصلاحات، قد أعطت وهما بالقبول والاستكانة.. جاءت ضريبة الكربون لتكون بمثابة النقطة التى أججت لهيب النار».. والتى عكست مدى «السوء العام» فى فرنسا. كذلك حالة «التدهور التى طالت شتى المجالات».. ويخلص «إدجار موران» إلى أن ما يحدث فى فرنسا هو أمر «يتعلق بأزمة حضارة ضخمة وأزمة إنسانية كبرى ناتجة عن العولمة الجامحة». ويتفق الكثيرون مع «موران» فيما سبق. ويضيف «تود» أن العولمة قد «أصابت البنى المجتمعية الأوروبية بتصدع عميق. ما ينبئ بانفجار وشيك للبنية الاجتماعية أمام تزايد حدة الفوارق واللامساواة بين الطبقات».. وما حركة السترات الصفراء، وغيرها، فى نظر «تود» إلا إعلان المناهضة التامة لنسق اقتصادى شرس، سبب انقساما ممتدا فى «بنى المجتمع المتعددة» ليس فى فرنسا فقط، وإنما فى القارة الأوروبية باختلاف دولها.
(5)
ويوصى «موران» بأن نزع فتيل الغضب فى فرنسا يحتاج إلى ابتكار واتباع «سياسة حضارية من شأنها أن تقلل ــ تدريجياــ من أوجه القصور فى حضارتنا. وتطورــ بشكل تدريجى ــ فضائلها».. ومع مرور الوقت يتزايد الحوار الوطنى حول شتى القضايا.. وتنمو أعداد المثقفين المنخرطين فى دعم الحركات المواطنية الجديدة.