«غير منضبط ولكنه حر»

بينما كان البابا فرنسيس، بابا روما، يستعد لإلقاء كلمة على الحضور، فوجئ باندفاع أحد الأطفال نحوه «يشاغله» وهو جالس على المنصة.. ظل الطفل يتحرك من حوله يشاغله، ويصرف نظر الحضور عن محاضرة البابا وسط ضيق الحرس والحاشية وحيرتهم فى التعاطى مع الموقف. وانتابت الجميع حالة من الارتباك، خاصة أن البابا فرنسيس ظل يتأمل مبتسماً موقف الطفل وأفعاله مع العناصر الحاضرة على المنصة، وهو يمد يده داعياً الطفل إليه بحب وحنو واضحين.. وبعد أن توجهت أم الطفل إلى البابا لتوضيح ما وراء «اندفاعة» طفلها المفاجئة للجميع، بدأ البابا فرنسيس يوجه كلامه للحضور، مشيراً إلى الطفل، معلناً ما يلى: «إنه أبكم». ولم يكتفِ البابا بما أعلنه عن الطفل، ولكنه استطرد مُثنياً عليه بقوله: «ولكنه لديه قدرة على التواصل والاتصال».. وأكمل حديثه حول الطفل الأبكم: «قد يبدو غير منضبط ولكنه حر».

(2)

كلمات قليلة وأفعال دالّة جسّدها البابا فرنسيس، تعكس منهجاً فى التعاطى مع الأطفال عموماً، والذين يعانون خصوصاً. تقوم عناصر هذا المنهج على ما يلى:

أولاً: قبول الآخرين كما هم. ثانياً: تفهم أى خروج عن النص، وأنه نتاج طبيعى للشخصية الإنسانية وما تحصلت عليه من تكوين وخبرات. ثالثاً: احتضانهم، واكتشاف ما يميزهم وإبرازه و«بَرْوَزته». رابعاً: احترام الحرية الإنسانية بمعناها الكلى الشامل. خامساً: مد مظلة الحب للجميع دون تمييز.

(3)

لقد عبّر الطفل عن نفسه بلا حسابات. وخلقت تصرفاته الذكية والظريفة والسريعة والرشيقة التى مارسها مع عناصر المنصة حالة من المرح أكدت وجود قدرات تواصلية عالية لديه بالرغم من إعاقته، سرقت الكاميرا- بلغة السينما- من جميع مَن فى المنصة على اختلاف أهميتهم ومكانتهم.

نعم، تُعد تصرفات الطفل خروجاً عن المُعَدّ سلفاً، وإخلالاً بما أعده المُعِدون من إعداد سابق، أو حسب تصوراتنا «عدم انضباط». لكن بابا روما رأى الطفل يمارس حريته الإنسانية بتلقائية، وجسارة، وبراءة، «دون خوف»، «إذا ما استعرنا مفردات عالِم النفس الألمانى/ الأمريكى إيريك فروم 1900- 1980»، من سلطة، أو تقاليد، أو ترتيبات إدارية مغلفة بقداسة وهمية: «رتيبة» ونمطية ومتكررة، أو عقوبة أو... إلخ. والأهم من كل ذلك، وفى حالة طفلنا هذا، هو الحرية من «أسر الإعاقة».

(4)

ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن هذه الواقعة تعكس لنا أن ممارسة الحرية تحتاج قدراً من عدم الانضباط، تربك ما نتصور أنه منضبط وغير قابل للخلخلة، وأن إظهار المواهب الفردية يحتاج مساحة حرة لا تخضع «للانضباط» لأن الحرية ببساطة هى التحرر من القيود، فلو استسلم طفلنا لإعاقته لما استطاع أن يعبر عن نفسه فى حضرة رسمية لها بروتوكول صارم ودقيق. وأثبت لنا أن النسق التنظيمى الذى يتصوره أصحابه غير قابل لأن يتعرض لأى إخلال أو اختلال يمكن أن يتعرض لمفاجآت يمكن استيعابها دون أن ينهار هذا النسق، خاصة أن الأصل فى التركيبة البشرية هو «التنوع» لا التماثل.

(5)

إن الواقعة التى قدمناها من بطولة «بابا روما والطفل الحر- الأبكم» تثبت ضرورة إدراك تنوع مكونات الجماعة الإنسانية، ومن ثَمَّ حتمية ممارسة عناصرها فعل الحرية- بدرجات- على غير ما هو متوقع، أو مُعَدّ سلفًا من سيناريوهات لتسيير الجماعة، وتمثل تضاداً مع طبيعة مكوناتها المختلفة والمتنوعة.

بلغة أخرى، ضرورة قبول التنوع، وبالتالى قبول «عدم الانضباط» المحتمل، واعتباره «ممارسة للحرية الإيجابية» مادامت صبت فى الصالح العام، شريطة ابتكار الآليات الصحية الحديثة القادرة على استيعاب الممارسات المتعددة للحرية الإنسانية/ المواطنية.

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern