«المواطنون يريدون حلولا لمشاكلهم، فلم يعد يعنيهم أن يُعبر السياسيون عن مشاعر التعاطف معهم»... «الحركة المواطنية الجديدة تعبر عن 30% من إجمالى الكتلة السكانية الأوروبية وتجمع بين أقصى اليسار إلى أقصى اليمين»... «تتحرك هذه الكتلة باختلاف عناصرها فى مواجهة الأبنية القديمة وما تمثله من أفكار وسياسات»... عبارات ترددت على لسان عدد من المحللين تعليقا على ما يجرى فى القارة الأوروبية والذى يعد نقطة تحول تاريخية تجتاح دول القارة الأوروبية دون استثناء.
(2)
وترصد دورية الجارديان الأسبوعية (مجلة أسبوعية تصدر عن صحيفة الجارديان الإنجليزية بتاريخ 30 نوفمبر) مسيرة الحركية الجماهيرية الأوروبية منذ 1998. فلقد بدأت من خلال ممارسة التصويت الانتخابى الحزبى بنسبة تزيد قليلا عن الـ5% من إجمالى الكتلة التصويتية آنذاك. لتصل مع نهاية 2018 لتكون 30% من إجمالى الكتلة السكانية للقارة الأوروبية (التى تزيد على الـ170 مليون نسمة قليلا). وتمثل بنفس النسبة فى برلمانات أوروبا على النحو التالى: 5.9% لأقصى اليسار. و13.8% لأقصى اليمين. و7.4% للوسط فى العموم (ما يقرب من 30%). حيث تمثل هذه الكتلة/النسبة حركات وأحزاب جديدة تبلورت فى «الشارع» خارج الكيانات السياسية والحزبية القديمة (وقد أشرنا فى المقالات السابقة من هذه السلسلة إلى العديد منها فى شتى دول القارة الغنية منها والفقيرة). والأهم فى هذا المقام، أن نشير إلى أن عددا من هذه الحركات والأحزاب «الشارعية الجديدة» تشارك الآن فى 11 تشكيلة وزارية فى أوروبا من النرويج فى شمال غرب القارة الأوروبية إلى اليونان فى جنوب شرقها. تشارك فى العملية السياسية دون أن تتوقف عن ضغطها الميدانى بالإضافة لغير الممثلين برلمانيا ووزاريا بالطبع... هذا هو واقع «الحركات المواطنية الجديدة» بالأرقام والحقائق... فماذا عن الأفكار؟ خاصة أنها تجمع فى عديد الحالات بين اتجاهات متناقضة.
(3)
إن الفكرة المحورية الحاكمة للحركات المواطنية الجديدة تنطلق من ضرورة «إعادة النظر» فى: أولا: الاختيار الاقتصادى الذى ساد منذ سنة 1980 وأثره على دولة الرعاية بتجلياتها الأوروبية المختلفة. وثانيا: العملية الديمقراطية وإلى أى مدى تقوم بأدوارها من تشريع، ومحاسبة، ورقابة بما يصب لصالح عموم المواطنين من جهة، وحضورهم الفاعل من جهة أخرى. وثالثا: التغيرات الثقافية الحادة التى استجدت على الواقع بفعل العولمة، والهجرات، والتقنيات الرقمية وأثر كل ذلك على «الموزاييك» اللغوى، والعرقى، والقومى، والإثنى فى القارة الأوروبية... ولأن الواقع المُعاش يشير بقوة إلى أن «الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا والهامشية/المنبوذة/المنسية/ (أو ما بات يعرف بطبقة البريكاريات) تعانى من «تراجع الرعاية»، و«انكماش الرفاهة». و«انحياز الديمقراطية إلى من يملك أكثر». وأخيرا «الإقصاء الثقافى». وعليه، كان من الضرورى التحرك من أجل إعادة النظر، فى زمن يصفه بعض الباحثين «بزمن القسوة»، «Austerity Era»... أو بلغة أخرى التحرك الجماهيرى القاعدى من أجل «بداية جديدة»؛ تتجاوز هذا الزمن...
(4)
«بداية جديدة»؛ ليس بمعنى إحداث تغييرات إجرائية أو تغييرات فى الأسماء. وإنما مراجعة شاملة «للعقد الاجتماعى الأوروبى التاريخى». بما يضمن حياة عادلة وكريمة وحرة لجميع المواطنين... لذا يتحرك الـ30% ككتلة شرعيتها «سلطة المواطنة»؛ تسعى من خلال حركتها الضاغطة المباشرة وبدون وسطاء سياسيين (أحزاب، ونقابات، واتحادات،...، إلخ) إلى تجديد عناصر المواطنة: «المساواة فى شتى الأبعاد، والحضور السياسى والمدنى الفاعل والمباشر، والتقاسم العادل للثروة العامة للبلاد»، لجميع المواطنين وفى وقت واحد.