الحركات المواطنية الجديدة (3) من «جوادلوب» إلى باريس

يتعامل العقل العربى مع الأحداث الدولية المهمة والحاسمة «بالتجزئة». فالحدث هو مجرد «لقطة» منفصلة عن سياقها وعما سبقها من «لقطات». ويعتبر تعاملنا مع المشهد الفرنسى، خاصة، وما يحدث فى أوروبا، عموما، نموذجا لذهنية «التجزئة»...ومن أهم ملامح هذه الذهنية: المفاجأة، والارتباك، والتعليقات السطحية، والتحليلات وفق المعايير الذاتية/ المحلية غير المنطبقة على السياق الفرنسى/ الأوروبى.. إلخ.. وقد حاولنا فى مقالينا السابقين التأكيد على أن ما يحدث فى فرنسا هو تجسيد حى لما يحدث فى القارة الأوروبية من اجتياح ما أطلقت عليه «الحركات المواطنية الجديدة». وهى حركات ذات ملامح مختلفة عما عرفه المجتمع الإنسانى من حركات من حيث التعبئة، ونوعية المطالب، ونمط التحالفات. كما أنها تأتى من خارج المؤسسية القائمة. لذا عرفت بأنها حركات «ضد المؤسسات». الأهم هو أن ما يحدث فى فرنسا ليس منبت الصلة عما يحدث فيها منذ عقد من الزمان بشكل دورى، أى منذ حدوث الكارثة الاقتصادية الأسوأ فى تاريخ البشرية سنة 2008.. حيث بدأت الحركات الاحتجاجية والمطالبية من «أطراف فرنسا إلى المركز فى باريس».

(2)

«جوادلوب» كانت البداية عام 2009.. وجوادلوب إحدى جزر الأنتيل بالمحيط الأطلنطى. وهى منطقة لا تزال تابعة لفرنسا منذ الزمن الاستعمارى (تبعد عنها حوالى 7000كلم، وقد أصبحت ملكا لفرنسا بحسب معاهدة فيينا 1815 ــ وتعد جزءاً من الاتحاد الأوروبى وعملتها اليورو). ففى مطلع 2009 أطلق أعضاء النقابة العامة للعمال «UGTG» إضرابا عاما ضد غلاء المعيشة. وتشكلت حركة LKP؛ أو «التحالف ضد الاستغلال»، وهو تجمع مُناهض للأرباح الفاحشة والفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء... وفى كثير من الأدبيات التى تابعت هذه الحركة يعتبرها «قاطرة تحرك ممتد».. بلغة أخرى، استطاع «الطرف التابع»؛ أن يطلق شرارة «الحراك المواطنى»: هناك فى أطراف فرنسا وفى باريس المركز.

(3)

نجحت UGTG فى إنجاز الكثير مثل: رفع الأجور بنسب تتناسب والاحتياجات المعيشية. كذلك تأمين خدمات وأنشطة تأمينية مناسبة. واستطاعوا ابتكار استراتيجية عنوانها: «سنحصد ما سنزرع».. بقدر ما يتحركون حركة واعية بقدر ما سيحصلون على حقوقهم. حيث تقتضى الحكمة عدم التقليل من «مراكمة الانتصارات الصغيرة».. ما أكد على وعى قيادات هذه الحركة بالتاريخ النضالى لمجتمعهم منذ الثورة الفرنسية من جهة ولجهود الاتحاد النضالية التاريخية قبل الأزمة الاقتصادية.. كما ابتكروا الكثير من الآليات النضالية ومنها استخدام «التيشيرتات والقمصان» لإعلان مبادئهم منذ وقت مبكر.. ما كان ملهما لكل «الحراكات» التالية والتى بدأت «بإضراب عام» تاريخى فى فرنسا فى نفس العام كان قوامه ــ وأرجو الانتباه ــ موظفو الأعمال المساعدة والخدمات، والموظفون المؤقتون. وهى شرائح اجتماعية تمثل ما يقرب من 30% من الكتلة السكانية تعانى العوز نظرا لضآلة ما يتقاضون من أجور.

(4)

ونتج عما سبق فى: «الطرف الفرنسى» و«المركز الباريسى»؛ أن تضامنت معها عشرات الأحزاب والنقابات والجمعيات. كما تم عمل وثيقة تاريخية من 142 بندا تشمل: الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والتنمية، والتشغيل، والتدريب، والصحة، والتنظيم المدنى، والتنمية الثقافية، وحماية البيئة.. إلخ. وبلورت شعاراتها الأساسية فى: محاربة غلاء المعيشة، ومساعدة العمال الفقراء، التنديد بالفساد ومقاومة كل أشكال التمييز، ومواجهة تطبيق قانون العمل المتعسف، ورفض علاقات العمل الاستعمارية».

ثانيا: تجديد العملية الديمقراطية من خلال عدم احتكار النخبة. وتوسيع الشراكة المواطنية. والأهم هو التأكيد على أن الحركية القاعدية الجديدة للشرائح المهمشة يمكن أن تكون طاقة لتجديد الديمقراطية القائمة على «التشاركية».

(5)

وانطلقت الحركات المواطنية، حركة بعد حركة: إضرابات الطيران، والسكك الحديدية (الثلاثاء الأسود)، وعمال القمامة، وحركات الواقفون ليلا، وحركة فتيان وفتيات ثانوى، و«إلى الأمام»، وأخيرا «السترات الصفراء».

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern