أحزاب وحركات الشارع

فى أعقاب الأزمة المالية الأسوأ، حتى الآن، فى تاريخ البشرية التى وقعت سنة 2008، انطلق الكثير من التظاهرات الجماهيرية الاحتجاجية فى العديد من العواصم بالأخص الأوروبية. انطلقت من الشوارع إلى الميادين الكبرى. وقتها بدأ العقل البحثى اليقظ، فى العالم المتقدم، يرصد هذه الظاهرة ودلالتها ومضمونها، ودوافعها، والعناصر الفاعلة فيها، وما الفرق بينها وبين ما سبق من تحركات «شارعية». وتحت مبحث «Street Politics»؛ أبدع العقل البحثى العديد من المساهمات فى هذا المجال. وقد كان لنا ــ فيما أظن ــ السبق فى لفت النظر إلى هذه الظاهرة من خلال سلسلة من المقالات حولها منذ 2015. وكللنا بحثنا بدراسة تأصيلية بعنوان «الحركية المجتمعية الجديدة فى أوروبا: من زمن المواطن ــ الدولة إلى زمن الحركات المواطنية ــ الشبكات الحاكمة المغلقة‘» (مجلة الديمقراطية ــ يوليو 2018).

(2)

بداية ميزت كتابات «سياسات الشارع» بين التحركات الميدانية المناهضة للعولمة والتى تجمع بين «بشر» عابرين للحدود حول قضايا تهم الكوكب وبين التحركات «المواطنية» التى تنطلق فى إطار وطن بعينه. حيث يدافع هؤلاء المواطنين عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية فى مواجهة ما عرف بسياسات التقشف عقب الأزمة المالية. ونذكر هنا كتابا مرجعيا مهما عنوانه: «سياسات الشارع فى زمن التقشف: من الإذلال إلى الاحتلال». ويقصد «بالإذلال»: التدهور المهين الذى طال الشرائح الوسطى والدنيا من المجتمع. ومن ثم ضرورة استعادة «الكرامة الإنسانية» من خلال «الاحتلال»: أو الخروج إلى الشوارع و«البقاء» فيها: اعتراضا، واحتجاجا، واعتصاما...

(3)

فى هذا السياق، انطلقت فى أوروبا ــ الغنية والفقيرة على السواء ــ الحركات التالية: «سيريزا» اليونانية، و«بوديموس» الإسبانية، و«الخمس نجوم» الإيطالية، و«بيرات» السويسرية، و«الشعب» الرومانية: و«جيل فى محنة» البرتغالية. كما انتعشت أحزاب صغيرة كانت على هامش المؤسسية الحزبية التاريخية التقليدية الحاكمة منذ عقود ممتدة مثل: «البديل من أجل ألمانيا» الألمانى، «إلى الأمام» الفرنسى (حزب ماكرون الذى قدم نفسه لإصلاح ما اقترفته الأحزاب القديمة)، و«الحرية» الهولندى، و«الفنلنديون الحقيقيون» الفنلندى، و«الديمقراطيون» السويدى،...إلخ.

(4)

ولدت هذه الحركات والأحزاب من رحم الشارع لتقاوم ما طال عناصرها من تدهور فى الأحوال بسبب سياسات اقتصاد السوق. حاملة رسائل مهمة ــ لم تلتقط سياسيا كما ينبغى ــ حيث جمع بينها أنها «ضد» الآتى: أولا: «المؤسسية» (Anti-Establishment)؛ وثانيا «النخبوية» «Anti-Elitist»؛ وثالثا: «السياسات» (Anti-Policies)؛ والتى فى نظرها تبلورت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ولم تفلح بعد مرور أكثر من سبعين عقدا أن تحقق ما وعدت به لمواطنيها...

(5)

وفى دراسة بعنوان: «ديمقراطية على الحافة»؛ وغيرها مثل: تحولات المواطنة؛ بتأصيل الظاهرة وتفسيرها كما يلى: أولا: إن حركات «الشارع» تعنى النضال المباشر والشراكة المفتوحة والحرة بين المواطنين والمثقفين وأصحاب المصالح المتضررين والشباب بهدف السيطرة المباشرة على المجال العام: الشارع/ الميدان. ثانيا: تحقيق الديمقراطية التشاركية أو ما أطلقت عليه وصف «مواطنة بلا وسطاء». ما يعد إعلان وفاة أو انتهاء صلاحية الديمقراطية التمثيلية. ثالثا: تبلور ما يمكن أن نطلق عليه «مواطن الصالح العام» لا «الرؤية الأيديولوجية المنحازة». رابعا: التعبير ــ النسبى ــ عن «الإرادة الجمعية لعموم المواطنين»...

(6)

صحيح أن هذه الحركات والأحزاب قد مارست السياسة بقواعد اللعبة الديمقراطية التاريخية، إلا أن المتابعين حذروا من أن استمرار النخبة القديمة من خلال أحزاب مغلقة وسياسات فاشلة سوف يدفع بتطوير ردود فعل حركات وأحزاب الشارع إلى ما نراه فى حالة السترات الصفراء الفرنسية والتى امتدت وقت كتابة المقال إلى هولندا وبلجيكا...نواصل...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern