«أوروبا.. تاريخ وجيز» كتاب صغير لا يتعدى المائتى صفحة، انشغل صاحبه، المؤرخ والأكاديمى الأسترالى «جون هيرست» (1942 ـ 2016) بكيفية «تعريف طلبة الجامعات بالتاريخ الأوروبى»، من خلال ثمانى محاضرات. لم يعن المؤلف أن يتناول التاريخ بصورة نمطية باعتبارها قصة لها «حبكة وبداية ونهاية». وإنما من خلال استخلاص «العناصر الرئيسية للحضارة الأوروبية» والنظر «فى كيفية تطورها عبر الزمن» ويستعرض «كيف تتخذ الأشياء الجديدة أشكالها من تلك القديمة»...ففى البدء انطلقت الحضارة الأوروبية من ثلاثة عناصر: أولا: ثقافة الإغريق والرومان، وثانيا المسيحية وثالثا: ثقافة المحاربين الجرمانيين الذين أغاروا على الإمبراطورية الرومانية وداهموا أراضيها. ومن التفاعل بين هذه العناصر نتجت: الفلسفة، والفنون، والآداب، والعلوم، والرياضة، والطب، والتفكير السياسى...إلخ. ظلت هذه الصيغة الثلاثية العناصر تتفاعل فيما بينها فى العصور الوسطى. وبتحليل مكثف درس «هيرست» التفاعل بينها كذلك الانتقال التاريخى من العصور القديمة والوسطى إلى الزمن الحديث مع حلول القرن الخامس عشر وانطلاق عصر النهضة، فالإصلاح، فالثورة العلمية، فالتنوير،...ومن ثم انطلاقة أوروبا فى القرن العشرين.
(2)
فى هذا الإطار يتناول «هيرست» الكثير من القضايا والإشكاليات مثل: أولا: الغزوات والفتوحات الأوروبية من القرن الثالث الميلادى وحتى القرن الخامس عشر. وثانيا: أشكال الحكومة الأوروبية منذ الإغريق، مرورا بالرومان، فالإقطاعيين والنبلاء، وحتى مرحلة الثورات. وثالثا: الإمبراطوريات الأوروبية من القرن الأول الميلادى وحتى نهاية القرن التاسع عشر. ولا يكتفى «هيرست» بدراسة تاريخ الحكام والأباطرة والتوسع عبر البحار والسلطتين الدينية والسياسية وإنما يعنى رابعا: بدراسة حركة عموم الناس ونضالهم فى تطوير نمط الإنتاج والبنية الاقتصادية الأوروبية من خلال الثورتين الزراعية والصناعية وانتعاش المدن. وخامسا: الحروب الأوروبية والتنافس/ التحارب الأوروبى ــ الأوروبى التاريخى، والحربين العالميتين. وسادسا: أثر الثورة الصناعية على الواقع السياسى والاقتصادى فى أوروبا عموما وفى كل من: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا. وسابعا: التعاون فيما بين دوله الغربية من جهة. ودوله الشرقية من جهة أخرى، بعد الحرب العالمية الثانية. فالتكامل الأوروبى بعد سقوط حائط برلين، وتفكيك الاتحاد السوفيتى فى تسعينيات القرن العشرين. وأخيرا الاتحاد الأوروبى.
(3)
تعد مقاربة «هيرست» «الأقصر والأوجز»، مقارنة بمجلدات فرنان برودويل: «هوية فرنسا»، و«الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية». وأعمال: «فيشر» وموريس بيشوب، وتايلور. وقد أشار «هيرست» فى مؤلفه إلى أنه اعتمد «بشدة» على مجلدات مايكل مان الأربعة المعنونة: «مصادر القوة الاجتماعية: منذ بداية التاريخ إلى عصر العولمة»(والتى يجب أن تترجم إلى العربية لأهميتها الشديدة). وحسنا فعل الدكتور محمود محيى الدين فى اختياره لترجمتها بلغة رشيقة ومنضبطة. والذى كتب فى مقدمته، وتقديمه المعتبرين «الوجيزين»ــ أسوة بالمؤلف ـــ حول «مستقبل الوحدة الأوروبية» من جانب. وأهمية الكتاب للأجيال الجديدة بالرغم من صغره إلا أنه ينتمى لما يعرف بالتاريخ الكبير ما يذكرنا بما أنجزه مؤرخنا المبدع «محمد شفيق غربال» فى كتابه الموجز جدا، «عظيم الفائدة والعمق»: «تكوين مصر».
(4)
وظنى أن ما دفع محمود محيى الدين إلى ترجمة هذا الكتاب ـ بالإضافة إلى قيمته المعرفيةــ هو أن المؤلف كتب الكتاب بحس عملى للشباب من جهة. وبحس سياسى كونه عمل مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء الأسترالى لفترة من جهة أخرى. أى تعامل مع التاريخ وعينه على الواقع. وهو ما يميز الخبير المثقف عن «الخبير الموظف».. وهو ما يتسم به المترجم أيضا.