التنمية الثقافية المستدامة, هى عنوان المؤتمر الدولى الذى نظمه المجلس الأعلى للثقافة فى الفترة من 20 إلى 22 يناير الماضى...وظنى أن المؤتمر بعنوانه المركب قد جاء فى وقته تماما...لماذا؟...
أولا: لأن العقل الإنسانى ظل لوقت طويل يتعامل مع قضيتى الثقافة والتنمية بمعزل عن بعضهما البعض. انطلاقا من فرضية تقول إنهما يتعارضان مع بعضهما البعض. حيث تنتمى الثقافة إلى عالم القيم الروحية وعليه تميل إلى الثبات والسكون. وتتبع التنمية عالم القيم المادية. وهى عملية ذات وصفة سابقة التجهيز، وميكانيكية التنفيذ. ومن ثم لا يستقيم الجمع بينهما بالمطلق.
ثانيا: وفى وقت لاحق تم نقد المقاربة التى تفترض التعارض بين الثقافة والتنمية والقبول بالنقاش حولهما وادراك أن هناك خطوط تماس بينهما. ما سمح بالنقاش حول ما يمكن أن يكون مشتركا بين الثقافة والتنمية، وامكانية انتقاء من حقل الثقافة ما تطلبه ــ أحيانا ــ العملية التنموية.
إلا أن القفزة المعرفية والتكنولوجية التى عرفتها البشرية فى الربع الأخير من القرن العشرين والانتقال إلى زمن ما بعد الحداثة، وما بعدها أو بحسب وصف عالم الاجتماع الإنجليزى الأشهر أنتونى جيدنز( 1938) الحداثة الراديكالية. قد أدى إلى إعادة النظر فى الكثير من المفاهيم والأفكار. فالسياق المجتمعى بحسب عالم الاجتماع البولندى زيجمونت بومان (1925 ــ 2017) بات سياقا معقدا دائم التغير.
ومن ثم لم يعد السؤال الحضارى التاريخى المتعارف عليه هو كيف نحافظ على الثقافة صلدة ومستقرة؟...وإنما كيف يمكن تفادى الثبات والاستقرار؟...وعليه صارت المنظومة الثقافية منفتحة، وقابلة للتجدد، وحية، ونسبية. واصبحت المجتمعات/الأفراد فى عملية تفاعل مستمرة مع الجديد الثقافى الكوكبى.
وفى المقابل، وبالنسبة للتنمية, اكتشفت البشرية أن التنمية، اسما، والتى فى حقيقتها ليست أكثر من نمو اقتصادي: كمى، عمرها قصير وفاعليتها محدودة. كما أن النماذج التنموية التى عرفتها الدول عقب الحرب العالمية الثانية فى حاجة إلى مراجعة. فالتنمية القادمة من أعلى فى غيبة المواطنين/الناس لا تدوم. ودور الانسان فى العملية التنموية ضرورة. حتى الدول الأوروبية الاسكندنافية والتى اتبعت ما عرف بنموذج دولة الرفاه والتى اُعتبرت النموذج الأمثل تتعرض لنقد كبير فى وقتنا الراهن.
إذن، دفع التحول التاريخى للسياق الحضارى والمجتمعى والذى أظن أن أحد أهم تجلياته هو الانتقال بالبشرية ــ الغنية والفقيرة ــ إلى مأ اطلقنا عليه زمن ما بعد جوجل, أو الزمن الرقمى، أو بحسب ما استعرنا أدبيات منتدى دافوس الاقتصادى زمن الثورة الصناعية الرابعة إلى شد العالم إلى المستقبل. والإطلالة الدائمة عليه انطلاقا من سؤال حاكم هو: أى مستقبل نريد؟...خاصة مع تزايد الأخطار على كوكب الأرض جراء الحروب، والصراعات المتنوعة، والقهر الاجتماعى، والفقر، والإضرار بكوكب الأرض بيئيا، وقسوة وشراسة الكرتلات الاحتكارية الضخمة،...،إلخ. ما بات يؤذن بخطر حقيقى فى استمرارية المجتمع الدولى. وهو ما تبلور فى المؤتمر الدولى الذى نظمته الأمم المتحدة فى 2012 تحت عنوان: المستقبل الذى نريد The Future We Want وذلك ـ فى ذكرى مرور 20 عاما على مؤتمر ريو.
فى هذا السياق، تعددت النقاشات الأكاديمية و السياسية والتنموية متعددة الأبعاد: فلسفية، ولاهوتية، وأخلاقية، ونفسية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وعلمية طبيعية، لبلورة رؤية مركبة حول المستقبل فى ضوء معطيات الحاضر: المتعددة والمتشابكة العناصر. وخلصت النقاشات إلى اعتماد منهج التنمية المستدامة التى تتكون من ثلاثة محاور و17 هدفا كما يلي: أولا: جودة الحياة (6 أهداف). وثانيا: البنى التحتية والتعامل مع الموارد ( 7 أهداف). وثالثا: البيئة (4 أهداف). على أن تنفذ بشكل شامل ومتكامل. شريطة الأخذ فى الاعتبار مراعاة العنصر الثقافى كمنظومة قيمية، ورؤى، وأفكار، وسياسات...فلا تنمية حقيقية مستدامة بغير ثقافة متجددة. ولا يمكن أن تتجدد الثقافة دون استدامة التنمية القابلة للتصويب باستمرار.
مما سبق، تأتى أهمية المؤتمر الذى حمل عنوان: التنمية الثقافية المستدامة (بالإضافة إلى الكلمة الافتتاحية، طرح المؤتمر 20 موضوعا رئيسيا قدمت من خلالها أكثر من 100 مداخلة). ذلك لأنه يتجاوز التعارض والتجاور التاريخيين بين الثقافة والتنمية. ويقاربهما فى إطار جدلي: شرطى ووثيق بينهما. ما يجعل الحوار حول التنمية الثقافية المستدامة يتجاوز نقاشات النخبة إلى اشتباكات معرفية وعلمية مبدعة تتسم بالمجتمعية والشراكة المواطنية مع إشكاليات وتحديات الواقع وما طرأ عليه من مستجدات. كما يتجاوز زمن الثقافة الساكنة والنمو الاقتصادى إلى التواصل المبدع الدائم بين الثقافة والتنمية. بحيث ينتج عن ما سبق صورة المستقبل الأفضل المأمول التى تصب فى تمكين الانسان ــ المواطن أيا كان لونه، وجنسه، ودينه، ومذهبه، ومقامه، وعرقه، وجيله. وأيا كانت طبقته، وثروته، ومكانته الاجتماعية،...،إلخ. أى انطلاقا من المواطنة الثقافية. وبعد، من الأهمية بمكان أن يستمر النقاش حول ما ورد من أفكار فى هذا الملتقى وتعميقها. واعتباره فاتحة لآلية دائمة الانعقاد تعمل على بلورة وتصنيف الأفكار واعتبارها مقومات أولية لبراديم عصرى، أو نسق ثقافى جديد قادر على التفاعل مع الزمن الرقمى. وتحويلها إلى سياسات قابلة للتنفيذ هدفها تمكين المواطن.