الثقافة والتنمية المستدامة (1)..إعادة الاعتبار للإنسان..المواطن

الثقافة ليست فقط ما نعيش به، إنها أيضا، إلى حد كبير، ما نحيا من أجله: الوجدان، العلاقة، الذاكرة، القرابة، المكان، المجتمع المحلي، الإشباع العاطفي، البهجة الفكرية، الإحساس بمعنى أساسى وجوهري، فهذه أقرب إلى النفوس من مواثيق حقوق الإنسان أو المعاهدات التجارية. ومع هذا يمكن أن تكون الثقافة أيضا وثيقة جدا بالرفاه،...، على أن تصاغ، ضمن سياق سياسى مستنير...

وردت الكلمات السابقة فى نهاية تقديم الأستاذ شوقى جلال، المثقف المصرى الكبير، لكتاب فكرة الثقافة الذى ألفه العالم البريطانى البروفيسور تيرى إيجلتون الذى صدر مع مطلع الألفية الثالثة. واعتبر نقطة تحول جوهرية فى التعاطى مع مصطلح الثقافة، أحد أكثر المصطلحات والمفردات التى تناولها العقل البشرى بالبحث والتعريف والدراسة. حيث استطاع إيجلتون أن يتعاطى مع فكرة الثقافة، ليس باعتبارها فكرة مجردة تحلق فى السماء منبتة الصلة عن الواقع، وإنما فى إطار تفاعلها مع الشخصية الإنسانية، والطبيعة، والسياق الاجتماعي، واشتباكاتها مع الواقع فيما سماه حروب الثقافة.

فى ضوء ما سبق، ثبت أن نتاج تفاعلات واشتباكات الثقافة مع الواقع قد أكسب الثقافة سمات ثلاثا هي: أولا: أننا يمكن أن نعتبرها حاملة للتنوير وما يحمله من قيم. ثانيا: كما يمكننا أن نرى فيها طبيعة الحضارة وقيمها، واسلوب العيش فيها الذى يسود خلال فترة معينة كذلك تحولات هذه الحضارة. وأخيرا تعنى القدرة الفكرية والمهارية على نقد ما هو خارج التنوير وأدنى من الحضارة. أى تصبح الثقافة مقابلا للتنوير والقيم الرفيعة، والحضارة، والنقد القائم على المعرفة الذى يسهم فى التطور الإنساني، من جهة. وتطوير الثقافة ذاتها، من جهة أخري.

وعليه، تصبح الثقافة رسالة تقدم من أجل تجدد الإنسان والمجتمع، إذا ما استعرنا ما طرحه مرة الدكتور فوزى فهمي، حول العلاقة بين الثقافة والتجدد. وهى مهمة كبيرة تحتاج من المواطنين الانخراط فى عملية متشابكة من الأفعال المجتمعية (راجع كريس جنكز فى كتابه: الثقافة الصادر فى 1993 فى سلسلة أفكار مفتاحية عن دار روتلدج), التى تصب فى الممارسات المواطنية التى تحقق التقدم والتجدد...وهنا تكمن قيمة الثقافة فى حياة الشعوب وتنقلها من الثقافة التى يتم توظيفها ــ كما كتبنا مرة ــ من أجل صنع إنسان جنتلمان وهو أمر مطلوب ــ إلى تكوين: مواطن قادر على تمكين نفسه والآخرين، وهو الهدف الإجمالى المنشود... ونظرا إلى أن المجتمع الدولى قد اكتشف أن التنمية فى بعدها المادى فقط ــ ليست كافية لبناء مجتمعات ما بعد الحرب العالمية الثانية سواء فى العالم الغنى أو النامي. وعليه انشغل العقل الانساني، منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بالتأكيد دور الإنسان كصانع ومنتج ومستفيد من العملية التنموية. لذا نجد إعلان ستوكهولم، الصادر فى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، مؤكدا بيئة الإنسان، ومطلقا حوارات معتبرة حول القهر، والظلم، والآثار الناجمة عن الممارسات الاستعمارية المدمرة لكثير من المجتمعات،...،إلخ. وتعددت اللقاءات والمواثيق: لونج رينج بأمريكا ــ 1979، ومؤتمر الأمم المتحدة فى 1980، وهو المؤتمر الذى مثل محطة مهمة لسببين هما: الأول: إطلاق مصطلح التنمية المستدامة. ثانيا: تكوين لجنة برئاسة ويلى برانت، مستشار ألمانيا من 1969 إلى 1972، لدراسة إشكالية التنمية اللامتكافئة بين الشمال والجنوب: طبيعتها وأسبابها, فى محاولة للإجابة عن السؤال الجوهرى التالي: كيف نضمن تنمية دائمة وممتدة للمواطنين؟، شريطة أن يكون هدفها، ومحورها، وصانعها الإنسان وفق رؤية ثقافية إنسانية تحقق تنمية مركبة؟ وهو ما أجابت عنه تفصيلا السياسية النرويجية جو هارلم بروندتلاند (رئيسة وزراء النرويج على فترات من 1981 إلى 1996، ثم رئيسة لمنظمة الصحة العالمية من 1998 إلى 2003) على فترات فى الوثيقة التى عرفت باسمها عن التنمية المستدامة فى عام 1987...وتم التأكيد على ان الأخذ بالتنمية المستدامة يعنى ضرورة توافر ثلاثة شروط أساسية هي: أولا: تجديد الالتزام السياسي. ثانيا: الابتكار الاقتصادى الانتاجي. ثالثا: الشراكة بين المواطنين...

وما الشروط السابقة إلا تجليات للدولة الحديثة ومنظومتها الثقافية التى تتضمن قيم: الحداثة، والمدنية، والعصرنة، والدستورية، والجماعية، والمؤسسية، والوطنية، والمواطنة الفاعلة، ومرجعية القانون، والعقلانية، والهوية المتصالحة مع ذاتها، ومع الآخرين، والتنوير، والتفكير الناقد، والالتزام الإنسانى بقضايا كوكب الأرض، والحضور المواطنى الدائم فى المجال العام ببعديه: السياسى والمدني،...،إلخ. حيث يلعب الإنسان ــ المواطن دورا محوريا من خلال الفعل المجتمعى وفق رؤى وسياسات وآليات متوافق عليها. لذا يعتبر الكثيرون أن الربط بين الثقافة والتنمية المستدامة هو إعادة اعتبار تاريخية لدور الإنسان ــ المواطن لذاته، ومجتمعه.

فى هذا الإطار، نظم المجلس الأعلى للثقافة مؤتمرا دوليا فى الفترة من 20 إلى 22 يناير تحت عنوان: التنمية الثقافية المستدامة وبناء الإنسان، مطلقا حوارا ثريا عبر100 مساهمة متنوعة، حملت الكثير من الأفكار، ومحاولات الإجابة عن العديد من الأسئلة المشروعة فى لحظة تاريخية غاية فى التعقيد إقليميا وعالميا، نعرض لها تباعا.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern