البوتينية (2): إستراتيجيتها ومستقبلها

ارتبط بدء الحديث عن البوتينية والقيصر الجديد فى روسيا بنهاية 2015. بعد أن وضح تماما أن هناك امبراطورية جديدة ــ قد يراها البعض بازغة أو صاعدة، وقد يراها البعض الآخر تستعيد مجدها التليد ــ قد باتت حاضرة بقوة فى المعادلة السياسية العالمية: اقتصاديا، وسياسيا، وعسكريا، وتكنولوجيا فى أكثر من موضع حيوى...

قامت البوتينية على ثلاثة محاور استراتيجية هي: أولا: إعادة ترتيب البيت الروسى الجديد من الداخل. ثانيا: تأكيد تأمين المصالح الروسية فى الدائرتين الأوروبية والآسيوية أو ما يعرف بالدائرة الأوراسية لروسيا (حيث تقع روسيا فى جزء من أوروبا وأجزاء ممتدة من آسيا). ثالثا: الانطلاق الكونى حيثما تقتضى الضرورة المصالح الروسية...والسؤال الذى يفرض نفسه: ما هو مضمون هذا التحرك الثلاثى المستويات؟.

تعد روسيا هى الدولة الوحيدة بين الدول الخمس الدائمة العضوية فى مجلس الأمن التى لا تحتاج إلى استيراد الطاقة من نفط وغاز وكهرباء. والأهم أن النفط والغاز يشكلان 60%، قابلة للزيادة، من صادراتها. ما يعطيها تفوقا استراتيجيا لا تمتلكه الدول الأخرى التى ليس لديها اكتفاء ذاتى من هذه الموارد الحيوية.(راجع: دور روسيا ــ 2013)...ومن ثم تكون الإجابة: يهدف التحرك الثلاثى المستويات إلي: تعظيم العائد الاقتصادى بما يصب فى بناء الإمبراطورية الجديدة وتعافيها من خسائر القيصرية والشيوعية. شريطة أن يكون الانطلاق الاقتصادى عملاقا. وتوفير كل ما يؤمن هذا الانطلاق من تسهيلات جمركية، وتيسيرات تجارية، وحمايته باتفاقيات أمن جماعى، وقوات عسكرية للتدخل السريع متى تطلب الأمر، أخذا فى الاعتبار عدم المساس بأى مساحة جغرافية تعتبرها روسيا ضرورية لأمنها القومى خاصة جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة التى بقيت فى الاتحاد الروسى بالرغم من استقلالها مثل: جورجيا، وأوكرانيا، وأذربيجان،...،إلخ. إما لأنها تمتلك مخزونا وفيرا من الثروات الطبيعية اللازمة لروسيا الجديدة، أو لأنها تعد مناطق استراتيجية توفر الحماية لروسيا...يضاف إلى ما سبق، أن روسيا تطل على المحيطين : الهادئ، والمتجمد الشمالى ومجموعة من البحار، منها الخارجي: كبحر اليابان، وبحر البلطيق، ، ومنها البحار الداخلية وأهمها البحر الأسود، وبحر قزوين.

والمحصلة، أن روسيا بذلك تصبح الأولى فى العالم من حيث امتلاك مخزون الغاز بامتلاكها ما يقرب من 50 تريليون متر مكعب منه، وما بين 75 و150مليار برميل من النفط. بالإضافة إلى أكبر مخزون من المياه العذبة فى العالم...وهى ثروة توفر لها بعد المبادلات التجارية ما يقرب من 250 مليار دولار دخلا قوميا. ونشير إلى أن الاحتياطى الروسى من العملات الأجنبية والذهب يدور حول الـ500مليار دولار. هذا بالرغم من انخفاض أسعار النفط عالميا واستمرار تداعيات أزمة 2008 الاقتصادية الأسوأ فى التاريخ...وقد أدى ما سبق بأن وصف بعض الباحثين روسيا بأنها: روسيا الجديدة: روسيا بوتين والقوة...أنها دولة النفط العظمى.(راجع مارشال جولدمان فى New Russia : PETROSTATE - 2008 ).

فى هذا السياق، وضعت البوتينية روسيا بوتين وفق مجموعة معتبرة من المستشارين تصورا استراتيجيا يؤمن استقرار صادراتها عبر شبكة امداد عابرة للقارات غاية فى التعقيد، ومتشعبة الاتجاهات وحمايتها بالقوة خاصة مع تطور القدرات العسكرية والتكنولوجية الروسية. ومن ثم كان ضمها للقرم حتميا فى وجهة نظرها (2014)، كذلك تدخلها فى جورجيا (2008) ثم أوكرانيا (2014). وامتدادها فى أكثر من إقليم مثل: الشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا غرب المحيط الهادئ،... إلخ، وعقد أكثر من اتفاقية وشراكة مع العديد من الدول. كذلك الوجود بغرض الدفاع إن لزم الأمر. كل ذلك بهدف تأمين البوتينية ومشروعها الإمبراطورى الذى يصفه البعض بالتوسعى. (بحسب: مارسيل فان هيربين فى حروب بوتين: صعود روسيا الإمبريالية الجديدة ــ 2014).

والأسئلة التى تطرحها مجموعة من الكتب المهمة حول مستقبل البوتينية هي:

أولا: هل يمكن أن يستمر المشروع البوتينى مع تفكيك العملية الديمقراطية والعودة إلى منطق الحكم السوفيتى (ماشا جيسين، رجل بلا وجه ــ 2013).

ثانيا: كيف يمكن التعاطى مع الانقسامات المجتمعية الداخلية: الجيلية، والسياسية، والطبقية، والثقافية؟، جيليا: حيث تتزايد نسبة الكتلة الشبابية إلى 70% من إجمالى عدد السكان. وهى كتلة لديها تصورات متنوعة لرسم مستقبل روسيا غير مستوعبة.(راجع السياسات الروسية والمجتمع ــ 2010). وطبقيا: حيث تتمركز الثروة فى أيدى القلة. كذلك الحكم فيما بات يصفه المتخصصون فى الشأن الروسى فى الأدبيات المتعلقة بتطور روسيا الراهنة بحكم الأوليجاركية (القلة) الروسية. والتى يقصد بها النخبة البيروقراطية والكنسية المصاحبة لبوتين من جهة ولرجال المال الموالين تحديدا للبوتينية.(الرجل القوي: بوتين والصراع من أجل روسيا ــ 2012). وثقافيا: حيث تنامت ثقافة تؤمن بالشعوذة والقوى الخفية كمحركات حقيقية لسياسات العلم والعالم.(البوتينية: روسيا ومستقبلها مع الغرب ــ 2016).

ثالثا: إلى أى مدى يمكن لروسيا الجديدة أن تضبط تنوعها الإثنى، وتؤمن امتدادها الجغرافى سياسيا وثقافيا فى ظل تحولات نوعية عالمية وقارية.

وبعد، سيتوقف مستقبل «البوتينية» على اعتبار ما سبق هو مرحلة انتقالية. وبقدر ما نجحت فى تحقيق نتائج إيجابية فى المجالين الاقتصادى، نسبيا، والتنافسى العالمى. عليها بلوغ مرحلة الشراكة المواطنية، والتعددية، والحداثة الفكرية، والانفتاح.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern