البوتينية (1): مشروع روسيا بوتين

من أكثر الشخصيات السياسية المعاصرة التى تتعرض سياساتها وممارساتها للتحليل والتقييم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فهناك على الأقل ما يقرب من خمسين كتابا كبيرا عن بوتين روسيا صدرت فى العقد الأخير. لعل من أهم ما توافقت عليه هو أننا بصدد نموذج فى الحكم السياسى يمكن وصفه بالبوتينية...فما هى ملامحها، وما مستقبلها، وما أثرها على العالم؟...

تراوحت هذه الكتب فى تقييمها لبوتين ما بين مؤيد ومعارض. إلا أن الأكثرية اتفقت على دوره فى أنه أقام روسيا من عثرة تاريخية، فى ضوء رؤية حاكمة ومحكمة. ما أهل هذه التجربة أن تنسب إلى بوتين وأن توصف بالبوتينية.

بإيجاز يمكن توصيف البوتينية بأنها استعادة روسيا الإمبراطورية بالرغم من الضعف الشديد لروسيا، التى وصفها البعض بالحضيض. وهى الفكرة التى أسست لها الوثيقة التى أعدتها نخبة من المثقفين عام 1999 تحت رعاية جيرمان جريف الذى أصبح وزيرا للتطوير الاقتصادى وأصبحت الدليل الحاكم لبوتين فى حملته الانتخابية آنذاك. وقد جاء فى مستهل الوثيقة: إن روسيا تمر بأعظم أزمة فى تاريخها وأن كافة مواردها ومقدراتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية ينبغى حشدها لتمكين البلد الموحد من التغلب عليها. البلاد بحاجة إلى شعور جديد بالمسئولية، إلى مشروع روسيا الجديدة. هذا المشروع الروسى الجديد ينبغى له أن يشكل الأساس لسياسة الدولة وأساسا للتضامن بين الروسيين؛ (راجع وولتر لاكوير، مؤسس دورية Survey؛ فى كتابه البوتينية: روسيا ومستقبلها مع الغرب 2015، ترجمه فؤاد زعرور فى 2016).

وبلغة أخرى، يمكن اعتبار البوتينية محاولة للانتقال ــ ولنقل للإنقاذ ــ من حالة الدولة الفاشلة إلى وضعية الدولة القوية. دولة يقترب عدد سكانها من الـ 150 مليون نسمة. حيث يقع 70% منهم ما بين عمر الـ15 والـ60عاما، يعيشون على مساحة مترامية الأطراف، تعد الأكبر فى العالم (18 ألف كم مربع)، وتقع بين قارتى أوروبا وآسيا...ولكن الدولة الجديدة لا يمكن أن تنطلق فقط من خلال: تعبئة الموارد الطبيعية الوفيرة فى الحالة الروسية، والمسئولية فقط. فالأمر يحتاج إلى مقومات ذات طبيعة دافعة وملهمة.

لذا أنعش بوتين الفكرة الإمبراطورية لدى المواطن الروسى. خاصة أن هناك فكرة تقارب العقيدة فى الوجدان والذاكرة الروسيين مفادها: لا معنى لروسيا بدون امبراطورية. وهو ما عمل على إحيائه بوتين فى سبيل إنجاح عملية التحول. وقد عمل بوتين على إحياء الامبراطورية الروسية استنادا إلى ثلاثة مقومات رئيسية هي: أولا: القومية السلافية. وثانيا: الثقافة الأرثوذكسية. ثالثا: الوطنية الروسية. ووفق هذه المقومات يتم التحرك الروسى باستثمار موقعها الجغرافى وقدراتها السياسية فى قارتى أوروبا وآسيا ومن ثم الانطلاق إلى العالم.

وقد نجح بوتين فى تفعيل مشروعه. ما كرسه، فى كثير من الأدبيات، قيصرا جديدا على الإمبراطورية الروسية القومية البازغة والتى تحاول أن تستعير من الماضى افضل ما فى الامبراطوريتين القيصرية والشيوعية، خاصة التى تصب فى اتجاه تقوية دعائم الدولة وأجهزتها من جهة، وتعظيم تقدمها فى شتى المجالات من جهة أخرى. (راجع القيصر الجديد New Tsar؛ لستيفن لى مايرز ــ 2015).

وتبلورت مهمة بوتين التاريخية فيما يلي: أولا: بلورة الدعم الشعبى حول الإصلاح الاقتصادى خاصة الطبقة الوسطى. كذلك توحيد النخبة. ثانيا: المواجهة الحاسمة لكل من اغتنى بشكل فاحش متلاعبا بالقوانين. ثالثا: دعم الشركات التى راعت الصالح العام. رابعا: إصلاح النظام المالى. خامسا: رفع القدرة التكنولوجية والعسكرية. سادسا: الدخول فى تحالفات اقتصادية وأمنية ذات توظيفات واضحة. سابعا: الحضور الدولى المتراوح فى شتى المجالات.ومثلت العناصر السبعة تصحيحا للأخطاء الأساسية للسياسات الاقتصادية الارتجالية التى وقعت فيها روسيا ما بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى أى روسيا نهاية التسعينيات ــ التى تمثلت بالتركيز على الخصخصة أكثر من المنافسة، وعلى إعادة هيكلة المشروعات القائمة أكثر من خلق مشروعات ووظائف جديدة، وعلى تحويل الملكية إلى القطاع الخاص لخلق لوبى يدافع عن المشروعات الخاصة لمنع العودة إلى الشيوعية، والدفع إلى إنشاء مؤسسات تحكم السوق بدلا من التنافس، وتحرير الأسعار من دون تفكيك الاحتكارات السوفياتية. (بحسب جوزيف استيجليتز. كما يمكن مراجعة أحمد سيد حسين فى دور القيادة السياسية فى إعادة بناء الدولة: روسيا فى عهد بوتين ــ 2015).

ولاشك أن الروسيين استجابوا للمشروع القيصرى الجديد بما حمله من تصويبات. ولكنها لم تكن استجابة مطلقة أو غير مشروطة. ذلك لأنه ركز على بناء قوة الإمبراطورية الصاعدة على حساب الكثير من الاحتياجات المواطنية الحياتية. كذلك اتباع عملية ديمقراطية وظيفية . لذا وصفها الصحفى المعروف بن جودا بالإمبراطورية الهشة Fragile Empire (2013). حيث يشرح كيف أن الروسيين قد وقعوا فى علاقة مشاعرية متناقضة من الحب والكراهية، والدعم والرفض لبوتين. فمن جهة نجح فى أن يستعيد مكانة روسيا الإقليمية والدولية: اقتصاديا، وعسكريا، وتكنولوجيا، ومنعها من الانهيار. ومن جهة ثانية استطاع أن يقوم ببلورة صيغة روسية لرأسمالية الدولة التى تدير اقتصادا سوقيا. إلا أنه من جهة ثالثة: لم يستطع تقوية المجتمع الروسى وشفاءه من كثير من الأمراض.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern