من الحرب الباردة إلى السلام الساخن

نعم الحرب الباردة انتهت، وولت إلى غير رجعة... ولكن لا يعنى هذا أن الغرب قد انتصر...أو أنه قد تم التصدى بنجاح لروسيا. عبارة أدلى بها بروفيسور العلاقات الدولية مايكل ماكفول والذى عينه الرئيس أوباما سفيرا للولايات المتحدة الأمريكية لدى روسيا فى الفترة من يناير 2012 إلى فبراير 2014. وذلك بعد شهرين من تركه منصبه الغاية فى الأهمية والذى تولاه فى فترة دولية وأوروبية وشرق أوسطية وعربية حرجة. ويمكن اعتبارها الفكرة الحاكمة لكتابه الصادر عام 2018, من الحرب الباردة إلى السلام الساخن: سفير أمريكى فى روسيا بوتين. (500صفحة)... الذى حظى باهتمام كبير. كما صُنف من ضمن الكتب الأفضل للعام الذى نودعه خلال ساعات.

فبالرغم من تجاوز الكوكب مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى وتفكك المنظومة السوفيتية فإن روسيا تعود لتحقق الكثير من مصالحها الحيوية دون أى مراجعة حقيقية وحاسمة من قبل الغرب. وهى حقيقة يؤكدها ماكفول فى ضوء ما يلي: أولا: زياراته المبكرة العلمية والدراسية إلى الاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة ثم إلى روسيا بعد انتهائها. وثانيا: أنه أصبح أستاذا أكاديميا متخصصا فى الشأن الروسى وله دراسات متعددة حول الشأن الروسى، من أهمها كتابه المرجعى الذى أصدره عام 2001 بعنوان: ثورة روسيا التى لم تنته: التغير السياسى من جورباتشوف إلى بوتين. ثالثا: انخراطه فى حملة أوباما الانتخابية عام2007 مسئولا عن الملف الروسى، فمديرا له فى مجلس الأمن القومى فترة رئاسة أوباما الأولى. ورابعا: عمله، بالأخير، سفيرا لبلاده فى روسيا. وحول خلاصة تجربته الميدانية، والأكاديمية، والمهنية التى تمحورت حول روسيا نجده يقول فى إحدى محاضراته (فى مجلس الشئون الخارجية) التى مهدت لكتابه بقوله: لقد أثبت المسار التاريخى للسياسة الأمريكية مع روسيا عدم فائدة عزلها قسرا. حدث هذا فى زمن روزفلت. وتكرر فى عهود أيزنهاور، وجونسون، وريجان،...،إلخ، (بغض النظر عن الهوية السياسية للرئيس/الحزب الحاكم) فى مواجهة أكثر من موقف...وعليه يطرح استراتيجية إعادة التشغيل مع روسيا عموما وروسيا بوتين خصوصا.

فى هذا السياق، صدر الكتاب الذى ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية(24 فصلا) كما يلي: الأول: الثورة والثاني: إعادة التشغيل. الثالث: ردة الفعل..

يشرح ماكفول كيف تبلورت رؤيته فى إعادة التشغيل منذ وقت مبكر وتحديدا نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات (القسم الأول: أربعة فصول). وكيف تم تبنيها من قبل إدارة أوباما عمليا على مرحلتين: الأولى بدأت فى 2007 فى أثناء الحملة الانتخابية لأوباما عندما غزت روسيا جورجيا، ثم بعد انتخاب أوباما. وماهى التوافقات والاختلافات بين الإدارتين الأمريكية بقيادة أوباما والروسية بقيادة ميدفيديف أولا ولفترة وجيزة ثم بوتين (القسم الثاني: عشرة فصول). وإدارتها بنفسه حينما كان سفيرا وهى مرحلة زمنية واكبها الكثير من التحولات الحادة(القسم الثالث: عشرة فصول). وأهمية الاستمرار فيها خاصة مع تراجع الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة وتزايد القوى الصاعدة التى باتت لديها القدرة على مزاحمة أمريكا من جانب، وفى ظل إدارة ترامب من جانب آخر(الخاتمة التى عنونها المؤلف بالآتي: ترامب وبوتين)...

وتقوم استراتيجية إعادة التشغيل على عدة محاور متشابكة ومتداخلة، منها: أولا: التعاون؛ حيث هناك من الأهداف الكبيرة والمتعددة فى مجال السياسة الخارجية تستدعى إلى تعاون موسكو مثل: تجديد المعاهدة الاستراتيجية الخاصة بالحد من التسلح، ومواجهة الخطر النووى الإيرانى، وتقليل اعتماد الدولتين على باكستان، وتبادل الرأى حول التغير المناخى،...،إلخ. ثانيا: بناء علاقة تقوم على تعظيم الكسب المتبادل بين أمريكا وروسيا فى الكثير من الاهتمامات المشتركة. العديد من القضايا والملفات الدولية التى يمكن التشارك فى حلها. ثالثا: تنمية ما يمكن أن يطلق عليه العلاقة المتعددة الأبعاد مع روسيا بدلا من العلاقة الأحادية التركيز التى تقتصر على المسائل الأمنية فقط دون غيرها. إذ إن اقتصار الحوار الأمريكى الروسى على التسلح النووى سيؤكد أن شيئا لم يتغير منذ عصر بريجنيف ــ نيكسون. رابعا: تعميق الروابط الاقتصادية بين البلدين. وفى هذا المجال يمكن مثلا أن يتم تشارك بين الشركات الأمريكية مع نظيرتها الروسية. خامسا: تعميق الأواصر بين المجتمعين الأمريكى والروسى. سادسا: العمل المشترك وحده هو السبيل لبلوغ ما سبق...ويضيف ماكفول إلى ما سبق، ما يعتبره عنصرا خاصا وشخصيا يتوقعه من أن شد روسيا إلى البيئة الدولية سوف يؤثر إيجابيا على الدفع فى اتجاه التحول الديمقراطى الداخلى...

ويخلص ماكفول إلى أنه بالرغم من أن إعادة التشغيل لم تسر كما ينبغى ويحمل مسئولية ذلك لبوتين والتيار القومى التاريخى المعادى للغرب ومغامراته فى أوكرانيا والقرم، وسوريا،...،إلخ، من جهة، والارتباك الحادث فى العملية السياسية الأمريكية منذ وصول ترامب إلى الحكم من جهة أخرى، إلا أنه يأمل أن تسعف المؤسسات الديمقراطية العريقة الإدارة السياسية فى تجاوز ارتباكها حتى لا تتخذه روسيا ذريعة. ومن ثم إمكانية تفعيل إعادة التشغيل مستقبلا...ولحين ذلك سيبقى السلام بينهما ساخنا...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern