من أمتع المهام التى أحرص على القيام بها فى نهاية كل عام هى استخلاص أهم الأفكار التى أبدعها العقل الكوكبى من خلال متابعة الكتب الصادرة على مدى عام...وأحسبه تمرينا ذهنيا مفيدا من عدة جوانب.
أولا: لأنه يوفر قدرا من التواصل المعرفى مع جديد الإبداع الذى يواكب المتغيرات أولا بأول. وكنا قد قدمنا نموذجا عمليا فى هذا المقام فى مقالنا السابق عن كيف يواكب العلم الظاهرة التى أطلقنا عليها الحركات المواطنية الجديدة فى أوروبا. ومن ثم فهم الظاهرة/الظواهر من داخلها. ثانيا: لأن هذه الجهود الإبداعية والمعرفية تقدم مقاربات متنوعة، وتفسيرات متجددة ومتعددة للظاهرة الواحدة. ونشير هنا على سبيل المثال إلى عشرات الأعمال التى صدرت عن الرئيس بوتين فى السنوات الخمس الأخيرة. ثالثا: الالتزام المعرفى والعلمى فى تناول القضايا الملحة والمؤثرة فى حياة المواطنين بما يحقق الربط بين المعرفة والواقع العملي. وتأتى هنا إشكالية تداعيات الأزمة الاقتصادية الأسوأ فى التاريخ الإنسانى التى وقعت فى 2008 فى المقدمة. رابعا: وبالإضافة إلى ما سبق، والأهم، هو ما لاحظته من خلال المتابعة الدورية فى الأعوام الأخيرة فى كيف أن التعاطى مع الظاهرة العامة يفتح آفاقا بحثية تؤسس لحقول معرفية، ولمباحث، ولأدبيات جديدة، وغير نمطية، وملهمة، وإرشادية(راجع مقالنا السابق وكيف أن دراسة التحولات الأوروبية الراهنة فتحت مساحات بحثية خمسا كما يلي: سياسات الشوارع، ودراسة حركة الكتل الجماهيرية، والغضب المجتمعي، الاحتجاج الشبكى والرقمي، والديمقراطية المتضمنة فى العملية الراديكالية الجدية)... فى هذا السياق، ألفت النظر إلى الكتب التالية والتى أظنها من الكتب التى تستحق القراءة والترجمة لما تحمله من أفكار مثيرة للجدل.
الأول: مستقبل الرأسمالية, حيث يحاول مؤلفه: بول كولليير، بروفيسور الاقتصاد والسياسة العامة بجامعة أوكسفورد، معالجة ما يصفه «بالتصدعات العميقة» التى طالت نسيج المجتمعات اقتصاديا واجتماعيا. كذلك ما رصده من انقسامات عديدة على مختلف المستويات تتجلى في: أولا: بين المدن كثيفة السكان والريفية. ثانيا: وبين النخب العالية المهارة والكتل الأقل تعليما؛ وبين الدول الثرية والنامية...حيث إن استمرار هذه التشققات عمقا إنما يعنى فقدان الإحساس بالآخرين الأكثر ضعفا وفقرا وتهميشا. وهو ما يشجع اشتعال الصراعات والنزاعات ويتيح الفرصة للتيارات الأكثر محافظة وتشددا فى احتلال المشهد السياسي.. علينا انقاذ الرأسمالية من نفسها. فالوعد القديم بتحقيق الرخاء للجميع لم يتحقق كما أن إمكانية وضع نظرية اقتصادية جديدة صعب التحقق على المدى القصير. لذا لابد من تبنى استراتيجيات وسياسات تدعم تمكين جميع المواطنين دون تمييز. ومواجهة التزايد المتسارع للا مساواة. ويوجز كولليير أطروحته بأنه إما أن يقضى علينا الاختيار الاقتصادى الفاسد الذى أدى إلى التشققات الراهنة أو أن ننتقل إلى عصر اقتصادى أفضل.
الكتاب الثاني: كيف تموت الديمقراطيات؟, حيث يطرح مؤلفاه (أستاذان فى هارفارد) هذا السؤال ويجيبان عليه بنعم واضحة وصريحة من خلال دراسات ميدانية فى أوروبا وأمريكا اللاتينية (المجر، وتركيا، وفنزويلا،...،إلخ،)على مدى عشرين عاما. فليست الثورات أو التغيرات الحادة وحدها المسئولة عن موت الديمقراطية الذى يكون لصالح الاستبداد وتقدم أمثال ترامب مقدمة المشهد. وإنما التذمر، والغضب، وبطء حركة المؤسسات وضعفها. والتآكل التدريجى للتقاليد والأعراف السياسية. إلا أن المؤلفين يؤكدان إمكانية انقاذ الديمقراطية بالتعاطى الحاسم مع الأسباب المؤدية إلى الموت. والتمسك بتحقيق المساواة التامة والتعامل المبتكر مع التنوع...
الكتاب الثالث: الحطام: كيف غير عقد الأزمة المالية العالم؟؛ من تأليف المؤرخ الاقتصادى آدام تووز(يقع فى أكثر من 700صفحة)، حيث يقدم المؤلف تحليلا دقيقا لأزمة 2008 المالية وأثرها الضخم على دول العالم. حيث يؤسس للمسار التاريخى الاقتصادى الرأسمالى فى القرن العشرين، وكيف أدى للأزمة. كما عرض تفصيلا لجوهر وطبيعة النظام الاقتصادي/المالى الأمريكى والأوروبى وكيف يعمل. وفى هذا الإطار يشرح بدقة الآليات المالية التى أنتجت هذه الأزمة من: نظام تجارى عالمي، وديون، وقروض، وسياسات منحازة للأثرياء. ورصد لأثر الأزمة على الطبقة الوسطى العريضة كذلك على الأداء المؤسسى السياسى والاقتصادى والاجتماعى لكثير من الدول... وكان حريصا على الجمع بين النهج الاقتصادى والجغرافى السياسى، موضحا الآثار السلبية الاقتصادية المتنوعة على كل موضع: اليونان، أوكرانيا، الولايات المتحدة الأمريكية،...، إلخ. وكذلك ردود الفعل المختلفة على ما جرى من: الحكومات، البنوك، الأحزاب، والحركات الجديدة،... إلخ...ومن أهم ما أثاره المؤلف هو كيف اختطف القطاع الخاص المالى الدولة سواء بداية من التساهل الذى أدى إلى الأزمة(أو الحطام) أو مع السياسات اللاحقة التى تم اتخاذها فى محاولة احتواء تداعيات الأزمة...وأكد المؤلف أنه وبالرغم من أن بعضا من المؤسسات المالية قد أعلنت انتهاء الأزمة إلا أنها لم تزل قائمة وآخذة فى التفاقم... وينهى تووز مؤلفه حول القادم والمستقبلى الذى يجب تصميمه وتكوينه, هو ضرورة فك الارتباط بين الرأسمالية وبين النيوليبرالية. بلغة أخرى لابد من حماية الرأسمالية من كوارث سياسة دعه يعمل دعه يمر التاريخية البدائية.
بالطبع هناك كتب أخرى كثيرة صدرت فى عام 2018 جديرة بالعرض وخاصة التى تناولت مئويتى ماركس مئوية الثورة الروسية لما فيها من مراجعات معتبرة. إلا أننى اخترت كتبا تتعلق بواقع المواطنين فى هذا العصر..