الانتخابات الأمريكية: الانقسام المجتمعى إلى الكونجرس

وتتوالى الزلازل السياسية عبر صندوق الانتخابات فى العالم الغربى، تجاوزا، بدرجات متفاوتة. فكما تابعنا الانتخابات الأوروبية على مدى العامين الأخيرين فى كل من: فرنسا، وإيطاليا، واسبانيا، واليونان، وألمانيا، وأخيرا السويد. ورأينا كيف تمكنت قوى، وحركات، وأحزاب جديدة من أن تحتل مساحات على الخريطة السياسية من جهة. ويكون لها نصيب فى العملية السياسية بدرجة أو أخرى من جهة أخرى.

ها هو الدور يأتى على الولايات المتحدة الأمريكية، التى جرت فيها انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى بغرفتيه: النواب، والشيوخ. هذا بالإضافة إلى اجراء انتخابات لحكام 36 ولاية(من أصل 50 ولاية).

وقد جاءت النتائج كما يلي: أولا: بالنسبة لمجلس النواب فقد استطاع الديمقراطيون أن يحصلوا على 225 مقعدا مقابل 197 للجمهوريين، مع بقاء 13 مقعدا غير معلنة بعد، من أصل 435 مقعدا هى إجمالى مقاعد مجلس النواب الأمريكى. ثانيا: بالنسبة لمجلس الشيوخ، فلقد بقى توزيع المقاعد المائة كما هو:51 للجمهوريين و44 للديمقراطيين (حيث تتبقى خمسة مقاعد موزعة بين المستقلين:3 مقاعد، وغير المعلنة بعد: مقعدان). أما بالنسبة لحكام الولايات فلقد استطاع الديمقراطيون زيادة عدد الولايات التى ينتمى حكامها إلى الحزب الديمقراطى من 16 إلى 23 بينما هبط نصيب الجمهوريين من 33 إلى 26 حاكم ولاية. مع بقاء ولاية احدة ليس لها عنوان سياسى بعد.

وقبل التعليق على نتائج الانتخابات، نلفت النظر إلى أن انتخابات التجديد النصفى الأمريكية تقام بعد عامين من سنة انتخاب الرئيس. أخذا فى الاعتبار أن التجديد النصفى لمجلس النواب قد جرى على كل مقاعده. أما مجلس الشيوخ فقد جرى على ثلث المقاعد. وقد تم التوافق السياسى على الأخذ بهذا النظام الانتخابى انطلاقا من مواكبة المستجدات على الواقع السياسى الذى يفترض فيه الحيوية. ومن ثم تلبية حاجة المواطنين، مصدر السلطات والشرعية، إلى التغيير أولا بأول. أخذا فى الاعتبار أن عمليتى التشريع وصناعة القرار السياسى فى الولايات المتحدة الأمريكية تعدان غاية فى التعقيد. فالرئيس لا يمكن أن يستأثر بأخذ القرار دون موافقة الكونجرس بمجلسيه والتى ليست يسيرة حتى لو كانت فى ظل أغلبية موالية. فما بالنا لو كانت فى ظل أغلبية معارضة فى مجلس النواب وأقلية معارضة زاد عددها فى مجلس الشيوخ.

وعلى الرغم، من أن بعض المحللين يعتبرون نتائج الانتخابات متكافئة للفريقين: الديمقراطى، والجمهورى. على اعتبار أن هناك رؤساءً سابقين قد تعايشوا مع أغلبية معارضة ليس فى غرفة واحدة من غرفتى الكونجرس فقط. وإنما فى الغرفتين (مثلما هو الحال مع ريجان، الجمهورى، فى التجديد النصفى الثانى لمدة رئاسته الثانية عام 1986، وكلينتون، الديمقراطى، فى التجديد النصفى الأول لمدة رئاسته الأولى عام 1994، وبوش الابن، الجمهورى، عام 2006) ...

إلا أن القراءة فيما وراء الأرقام، تكشف عن ديناميكية سياسية فائرة للمجتمع الأمريكى تتسم بانقسام كبير, وهو ما وصفناه (فى أكثر من مقال مبكر) بالتقاطع بين التصدع القومى والثقافى من جهة، والصراع الطبقى من جهة أخرى, بفعل القوى السياسية البازغة من خارج الحزبين الكبيرين: الشبابية (خاصة النسائية)، والإثنية، والمدينية(نسبة للمدينة)، والإنتاجية: العمالية والفلاحية، والطبقة الوسطى، واليسارية النشطة الصريحة (ونذكر فى هذا المقام مقالاتنا الثلاثة حول اليسار الأمريكى الجديد مطلع هذا العام)،...،إلخ، والمتمردة على التصويت النمطى الكُتلى التاريخى. وإن مارست اللعبة الانتخابية عبرهما. وهو ما عبر عنه التصويت الشعبى المباشرــ Popular Vote, بأغلبية مريحة تعكس شرائح متنوعة من الجسم الاجتماعى الأمريكى انحازت ضد كل السياسات الترامبية لسبب أو لآخر. بالرغم من الهيمنة الجغرافية الظاهرة للحزب الجمهورى (خاصة فى الريف الأمريكي) ...ما يستوجب الانتباه...لماذا؟

لأن المنظومة السياسية التى تقوم على نظام الحزبين الكبيرين تفقد أهم مقوماتها إذا ظل أحد أحزابها مهيمنا: مؤسسيا، أو مدعوما من الكرتلات الكبرى. بينما يفشل باستمرار فى أن يحصد أصوات الجماهير المباشرة. ويدفعها إلى التحرك الميدانى القاعدى المجتمعى حتى وإن اتبعت قواعد اللعبة الديمقراطية ودعمت الحزب المعارض. ما يهدد المنظومة الحزبية الثنائية فى جوهرها...ويدخلها فى نفق مظلم ممتد وطويل. وبدء طريق الانقسام الطويل ـLong Divided, مما يعكس الانقسام المجتمعي/انقسام الدولة بمواطنيها, وتنتج ــ بالضرورة ــ حكومة منقسمة, بحسب تحليل الإيكونوميست (عدد 10 ــ 16 نوفمبر)...وهو ما قصدته بنقل الانقسام بين المواطنين من المجتمع إلى الكونجرس...

ويبدو لى أن الاختيارات السياسية المعتادة فى أوضاع كهذه ستكون معوقة ومعطلة, وأقصد بها التى تدور فى مجملها حول تسيير العملية السياسية: تشريعا، وتنفيذا، دون صدامات فيما بقى من وقت فى المدة الرئاسية. ذلك لأن الجديد الذى طرأ على الواقع الأمريكى من حيوية مجتمعية فائرة, يحتاج إلى رؤى جذرية وهى ما أظنه تقوم به القوى البازغة عمليا وسيكون له تأثيره حتما على المؤسسات القائمة، والانتخابات الرئاسية القادمة، وعلى السياسات الخارجية الأمريكية ومستقبل العالم بالتالى...ما يحتاج منا إلى دراسات غير نمطية حول الداخل الأمريكى الذى نعتبره ساكنا.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern