الثقافة فى الزمن الرقمى

أثبتنا بالإحصاءات إلى أى مدى الإقبال البشرى الكوكبى على التعامل النشيط مع تقنيات وتطبيقات التواصل الاجتماعى التى غزت كل القطاعات والمجالات... وما نتج عن ذلك من تحولات جذرية طرأت على التفكير والسلوك الإنساني: الفردى والجماعى من جراء ذلك. والتى تشير إلى أن زمنا جديدا يتشكل هو الزمن الرقمى...

ولا يكمن جوهر الجديد فى أننا نستخدم تقنيات جديدة من خلال أجهزة ذكية، تتيح لنا بلمسة، أن تضع بين أيدينا ــ دون عناء ــ الإجابات، والحقائق، والصور، والمعلومات،...،إلخ، فقط. وإنما لأن هذا الجديد قد أفرز قيما، وأنماط تفكير، وعلاقات جديدة شبكية ومعقدة مؤسسا للزمن الرقمى. وأننا لم نعد بعد فى زمن خطوط الإنتاج، متعاقبة المراحل، التى عرفتها المجتمعات الإنسانية بزمن الثورة الصناعية.

وقد زلزلت الثورة الرقمية الكثير مما هو مستقر من أبنية وقيم وتقاليد فى شتى المجالات. ومن ضمن هذه المجالات: مجال الثقافة. وحول ما سبق يقول عالم الاجتماع الفرنسى ريمى ريفيل فى كتابه «الثورة الرقمية، ثورة ثقافية» ما نصه: لقد خلخلت التقنيات الرقمية القطاعات الثقافية التقليدية، وزعزعت منطقها الوظيفى الاعتيادى، وأثرت فى طرق توزيع المضامين، وفى إعادة تشكيل المشهد الثقافى. بلغة أخرى، أحدثت الثورة الرقمية قطيعة، غير مسبوقة، مع الكيفية التى كانت تسير بها العملية الثقافية قبل الزمن الرقمى. ومن ثم اختلفت كليا طريقة تعاطى المرء مع: دنيا الأفكار، وعوالم الإبداع، والانتاج الثقافى بصوره المختلفة: (المرئية، والمسموعة، والمتحركة، والمقروءة). كما حلت التقنيات والتطبيقات الرقمية المتنوعة محل قنوات التعبير الثقافية المتعارف عليها. ومن ثم توسيع فرص نشر المنتج الثقافى باختلاف أنواعه ــ على أوسع نطاق. أخذا فى الاعتبار، تكون اقتصاد من نوع جديد يحكم المجال الثقافى...لذا يستوجب فهم ودراسة ما بات يعرف بالتزاوج بين عالمي: الصناعة الثقافية من جهة، وعالم التواصل الإلكترونى من جهة أخرى.

وقد أدى الانتشار المتزايد للتكنولوجيا الرقمية، ولاسيما الإنترنت فى العالم، إلى بلورة ما بات يطلق عليه «الفردانية المرتبطة» بحسب ريفيل ؛ والتى تتجلى فى الأفعال الإنسانية التالية: أولا: انكباب المرء على نفسه. وثانيا: انخراطه فى شبكة علاقات: يمكن أن تتغير ويتم استبدالها فى أى وقت بحرية تامة ودون تداعيات. ثالثا: اختياراته للمصادر التى يلجأ لها بحثا عن المعرفة. ورابعا: القدرة على التصويب المستمر من خلال البحث المتجدد...

والمحصلة يمكن رصدها فى ثلاث نتائج كما يلي: الأولي: حرر الزمن الرقمى ـ عمليا ــ الإنسان من المرجعيات التقليدية ومؤسسات التنشئة التقليدية. والثانية: اعتماد المرء ــ عبر الشبكة التى ينتمى إليها والقابلة للتغيير فى أى وقت ـ على البحث عن المعانى والقيم والأفكار والإبداعات المختلفة. أما الثالثة: التعبير الحر عن نفسه بطرق عدة تتيحها تقنيات التواصل الرقمية... وتصب هذه النتائج ــ فى المجمل ــ إلى تبلور ما يمكن أن نطلق عليه: «تثقيف رقمى تفاعلى متجدد عبر الشبكة»...فى هذا السياق، أظن أنه من المشروع أن نسأل، مجددا، عن مستقبل الثقافة فى مصر، أو بلغة أدق ما هو مستقبل العملية الثقافية المصرية فى ظل الزمن الرقمى...

ارتبط الحديث بالثقافة، فى مصر، إلى استدعاء الدولة. نظرا لأن الدولة الحديثة فى مصر منذ محمد على أسست لفكرة تكوين مثقفها الذى يتبنى تصوراتها وأفكارها ومواقفها ومن ثم تخطيط وتنفيذ العملية الثقافية. وهو ما تواصل فى الستينيات من خلال المنظومة الثقافية الرائدة التى تأسست آنذاك. ومع إدراكنا للدور التاريخى لهذه المنظومة، وتقديرنا التام لعناصرها المختلفة الفكرية والإبداعية والإدارية، إلا أن طبيعتها الموجهة من أعلى إلى أسفل ــ تحمل تناقضا جوهريا ــ بالضرورة، مع الزمن الرقمى. ما يعنى ضرورة إعادة النظر فى مضمون وعناصر العملية الثقافية...بحيث نجعلها تواكب المستجدات التى طرأت على المواطنين والمجتمع...والأهم اقترانها بالماكينة الرقمية المتجددة.

لم يعد للناقد الأدبى دور فى توجيه القارئ للنص الأدبى أو مجموعة النصوص الأدبية التى يجب أن يقرأها. كما لم يعد من حق أحد وضع ما يجب أن يسمع أو يرى من إبداعات موسيقية أو بصرية تشكيلية وحركية. ومن الأصل ليس هناك نموذج للمثقف سابق التجهيز أو ما أطلقت عليه ذات مرة «المثقف الجنتلمان الفرد»؛ نموذج المعلم الأرستقراطي: هنرى هينجز الذى رسمه برناردشو(1856 ــ 1950) فى بيجماليون. والذى كانت رسالته صنع نسخ ثقافية من ثقافته وتحيزاته. هكذا فعل مع إليزا دوليتل فى بيجماليون. ولكنها نجحت فى أن تتحرر من النموذج الثقافى الجنتلمان لمصلحة النموذج الثقافى الحر والفاعل مجتمعيا.

أى أن الثقافة فى الزمن الرقمى، يجب ألا تتسم بالهيمنة. وإنما تعمل فى ضوء قيمتين كبيرتين هما: أولا: «تفعيل الإرادة الحرة» للإنسان من جانب. وثانيا: «تمكين طاقاته الكامنة» ليكون مواطنا فاعلا من جانب آخر ليكون ـ الأخير ــ مؤهلا للتعاطى مع الواقع الدائم التغير باستقلالية تامة وساهرا على تقدمه دوما. مثلما فعلت إليزا... ما يعنى أن نضع أمام الإنسان/ المواطن كل الأفكار والإبداعات، ونفتح النوافذ ــ التى تعددت بكثافة ــ بتأمين مصادر البحث المعتبرة، ونؤمن مساحات التعبير المختلفة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern