ورقى.. رقمى: مفاضلة أم مفاصلة؟

تتعرض الصحافة الورقية، ولاشك، لتحد كبير مع تنامي الحضور والتعاطي «الملياري» البشري مع تقنيات التواصل والاتصال الرقمي الدائمة التجدد والإبداع.. وقد تنبه المعنيون لهذه الإشكالية مع توقف النسخة الورقية للصحيفة الأمريكية الشهيرة كريستيان ساينس مونيتور سنة 2008، وإطلاقها ثلاثة إصدارات رقمية مرة واحدة كما يلي: دورية اسبوعية رقمية، ونشرة يومية إخبارية رقمية، بالإضافة إلى مجلة أسبوعية رقمية. ولحقت بها مجلة «يو إس نيوز أند ريبورت» الأمريكية، ودورية بوليسي ريفيو التي تصدر عن مؤسسة هوفر البحثية. بالإضافة إلى عشرات الدوريات البريطانية المحلية. كذلك تتعرض دوريات عريقة لأزمات مالية متكررة ولكنها لا تزال صامدة. إلا أن صمودها لم يمنع من أن تضطر إلى القيام ببعض الإجراءات الأليمة من: خفض أعداد العاملين بها، وإنقاص الكميات المطبوعة، وتغيير شكل الدورية ، وتقليل ـ ما أمكن ـ الجوانب الفنية من إخراج ورسومات، بما يحقق ــ بالأخير ــ التوفير في تكلفة الطبع.

 

خرج المعنيون بسؤال جوهري هو: هل انتهى زمن الصحافة الورقية؟. وهو السؤال الذي فتح الباب أمام دراسات معمقة حول «مستقبل القراءة.، ومستقبل الإعلام المقروء».

وخلصت الإجابة عن هذه الأسئلة ــ من خلال دراسات عدة ــ إلى أن البشرية في لحظة تحول تاريخية كبيرة من الزمن الورقي إلى الزمن الرقمي. وأننا لم نعد في حالة مفاضلة بين الزمنين، وإنما حالة مفاصلة بينهما...أو بلغة أخرى، نحن نعيش في لحظة غروب زمن وشروق آخر...ومن ثم يحتاج العقل الإنساني إلى تفكير من نوع جديد. فاستمرار الصحافة الورقية على ما هي عليه. أي بنفس المنهج، والآليات، والاقتصادات، التي دأبت عليها ،أصبح صعبا. فالأمر يحتاج إلى إدراك طبيعة الزمن الجديد والاستجابة له...فلم يعد للصحافة التي تصدر من أعلى، محل، في نظر أجيال ما بعد جوجل، التي تعودت على «الشراكة المفتوحة»، والتفاعل الحر، والاستجابة الفورية مع ما يجري من أحداث ووقائع.

ولكن هل يعني ذلك أن تنقرض الصحافة الورقية بالمطلق. واقع الحال، يقول إن هناك فرصة متاحة أمام الصحافة الورقية أن تستمر شريطة أن تفكر بالمنطق الرقمي. وتشير تجارب معتبرة للإيكونوميست، والنيويورك تايمز، وغيرهما، إلى أن الإدارة الاقتصادية والتحريرية لهما، قد استطاعت ــ حتى الآن ــ إلى منافسة المواقع والمنصات الرقمية المستجدة/المتزايدة...كيف؟

فلقد فرض التحدي أن يبحث المعنيون عن إعادة تعريف الصحيفة الورقية سواء اليومية، أو الأسبوعية، أو الشهرية، أو الفصلية(ربع السنوية) بعناصرها التحريرية، وكيفية إدارة العملية الصحفية في ضوء التعريف الجديد...فلم يعد هناك مكان للصحافة الورقية التي توضع سياساتها في مطبخ الصحيفة أو غرفة التحرير، حيث يتوجب عليها أن تفتح المجال أمام شراكة القراء. وأن تكون مستعدة فكريا ومهاريا إلى القبول بالتفاعل بينها وبين القراء، وأن تستجيب لكل ما يحدث بمعالجات مبتكرة، وبسرعة فائقة.

إذن، لابد من إعادة تعريف كل من: الخبر، والتحقيق، والمقال، والعمود، والصفحات المتخصصة، من جهة. ومن جهة أخرى، إعادة النظر في الشكل العام للمطبوعة من حيث: الإخراج الفني، واستخدام الصور، والجداول، والإحصاءات. وكيف يمكن تقنيا تسهيل الخدمة الصحفية للقارئ والأهم وسيلة التواصل معه كما يقولون. فالمتابع للنيويورك تايمز اليومية أو الفورين أفيرز الفصلية مثلا يمكنه أن يلحظ بسهولة كيف أن موقع كل منهما الإلكتروني مفتوح طول الوقت يتلقى الآراء والصور والأخبار والمعلومات دون توقف من القراء: الشركاء...حيث يوضع المقال المُرسل إلى جواره اسم صاحبه (حيث يذكر توقيت الإرسال) جنبا إلى جنب مع المقالات المعتادة للصحيفة التي يكتبها كبار كتاب الصحيفة وخبراؤها. كذلك الاستعداد لتلقي أي خبر أو أي صور أو معلومات من أي شخص في أي مكان على ظهر الكوكب. فأي طفل يمكنه أن يقوم بمتابعة حدث ما، وقت حدوثه، ويصوره ويحمل عليه متابعة صوتية ويرسله فورا إلى الصحيفة التي يثق فيها. حيث يمكن للموقع الرقمي أن يواكب الحدث من جانب. ومن جانب آخر، تبدع وتدقق الصحيفة الورقية في معالجة الحدث بصورة أكثر تفصيلا. وتفصل قليلا ــ شريطة الرشاقة ــ في مضمون ما ينشر رقميا، وربما تصوب ما يشاع عبر المواقع والمنصات والمدونات والتطبيقات التواصلية المختلفة. أي تستكمل الصحيفة الورقية «الفراغات» التي تفوت على الموقع الرقمي.

الخلاصة، لم يعد الأمر يدور حول سؤال المفاضلة بين الإعلام الورقي والإعلام الرقمي، حيث تمت المفاصلة عمليا بين ما هو ورقي وما هو رقمي. وأصبح على الورقي التأقلم مع الزمن الرقمي. ويقينا سوف يختلف دور الإعلام كليا من لعب أدوار: الموجه، وصاحب الخبطات الصحفية، والمصدر، والمرجع، إلى ساحة حوار مفتوحة بينه وبين القراء تمكنهم من: التعبير عن أنفسهم، والتعليق، والنقد، ويكونون هم أصحاب الخبطات الصحفية، والمصدر...انه شكل من أشكال تحقيق قدر من الديمقراطية التشاركية المباشرة.

هذه هي الدفعة الثانية من الأفكار التي تناولناها في الملتقى الثقافي المصري اللبناني الثاني الذي نظمته مؤسسة الأهرام بالاشتراك مع الجمعية المصرية اللبنانية لرجال الأعمال...ويتبقى لنا أن نتحدث عن أى ثقافة يمكن بلورتها في ظل الصحافة الرقمية..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern