المواطنة اليقظة

تعد الحملة الرئاسية الأولى للرئيس أوباما (2008) نقطة تحول تاريخية بالنسبة للكيفية التى تدار بها الحملات الرئاسية الأمريكية خاصة والعالمية عموما... فقد تم ادارتها بالكامل عبر التقنيات الرقمية. لذا باتت تعرف فى الأدبيات العلمية بالحملة الرقمية... لذا استحقت أن تعد تأسيسا جديدا للعلاقة بين السياسيين والمواطنين وذلك لأسباب ثلاثة.

 

السبب الأول: أنها أعادت تشكيل الخطاب السياسى ونقلته من لغة الخطابات الرسمية المكتوبة بعناية ورصانة لغوية إلى لغة تقوم بالأساس على الرموز عبر مهارة الحكي، وتوظيف الصورة للتأثير على مخيلات المواطنين ليصبحوا حملة لأفكار مرشحهم ــ فى حالة المؤيدين ــ ويقومون بنشرها عبر الشبكة بأقل مجهود ممكن لأكثر عدد من أقرانهم.

والسبب الثاني: هو اتاحة الفرصة أمام الناخبين من التفاعل الحر المباشر طوال الحملة الانتخابية مع المرشح. وفتح نقاشات مطولة عبر تدخلات متعددة فى نفس الوقت ومن أماكن مترامية الأطراف.

أما السبب الثالث: فلقد كرست حملة أوباما الانتخابية ( فكرة ذهاب السياسي/المرشح إلى المواطنين. وترسيخ فكرة جديدة مفادها هو أن المرشح حاضر دوما. حيث يمكن للمواطنين أن يتواصلوا معه متى وأين وكيف أرادوا (راجع كتاب الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ــ 2018)...

ومن ثم لم تعد العملية الديمقراطية هرمية الطابع. حيث يكون مسار السياسة من أعلى إلى أسفل. وإنما تصبح العملية السياسية/المدنية تدور فى اتجاهات ومسارات متشابكة ومتداخلة. ما يعنى عمليا وفعليا تفكيك الديمقراطية التمثيلية الكلاسيكية وتحولها الفعلى إلى الديمقراطية التشاركية (راجع مقالاتنا الثلاثة السابقة).

والمحصلة أن المواطنين أصبحوا فى حالة انتباه سياسى مستمرة و ممتدة.

لم يعد الأمر، إذن، يرتبط بأن ينتظر المواطن المنتمى لحزب ما أن يراجع حزبه أو عقد اجتماع حزبى لكى تتم مناقشة ما يقوله المرشح وإصدار بيان رسمى متضمنا الرد المضاد. كما لم يعد هناك أى مبرر كى ينتظر المواطن غير المنتمى لحزب من الأحزاب أن يتأمل ما يسمعه، ويعيد التأمل فيه، وربما يستشير غيره، كى يحدد موقفه مما يسمعه فى الحملة الانتخابية لهذا المرشح أو ذاك. وإنما باتت لديه القدرة على الرد المباشر وإعلان رأيه الذى يعتبره المرشحون ثمينا جدا ومقدرا. حيث مكنتهم محركات البحث الرقمية من استحضار أية بيانات/معلومات/أفكار، مطلوبة فورا من خلال البحث فى جوجل واعتمادها للرد/الردود اللازمة على ما يطرحه المرشح. وممارسة كل أشكال التفاعل من: مشاهدات وتعليقات، «buzz»، و تغريدات، (و لايكات من Like و تشيير من Share).

ومن هنا تصبح فكرة موت السياسة غير صحيحة. كذلك انصراف المواطنين عن ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية غير دقيق. ذلك لأن ممارسة الديمقراطية عبر التقنيات الرقمية قد خلقت حالة مما يمكن أن نطلق عليه: الديمقراطية الإلكترونية... يمارسها ما سميناهم مواطنى الشبكة «Netizen»، من خلال عملية يصفونها بالتواصل المتشعب والمستمر والممتد أخذا فى الاعتبار أن مواطنى الشبكة ليسوا هم المسيسين فقط, ولكن التقنيات الجديدة قد أتاحت جذب شرائح وفئات من المواطنين بعضها كان عازفا، والبعض الآخر كان ممتنعا لسبب أو لآخر.

ونتج عن هذا التواصل تغيرات نوعية فى السلوك السياسي. فبات مواطنو الشبكة يتسمون بما يلي: أولا: البقاء فى حالة الاستنفار على مدى اليوم (أو 24 على 7 كما يقولون). ثانيا: الاشتباك مع كل ما يستجد فى المجال العام من قضايا، ومعلومات سواء حقيقية أو زائفة، ومواقف، وسياسات، وأراء،...،إلخ. ثالثا: شعور كل مواطن بأنه هو وحده المستهدف من العملية السياسية. كذلك كل فئة نوعية. وهو ما يعرف بال «micro ــ targeting». ما يصبغها بالحيوية والفاعلية والاستمرارية. رابعا: حق الرد الدائم وبالشكل الذى يتوافق عليه مواطنو الشبكة عبر حوار عابر للأزمنة، والأمكنة، والانتماءات الضيقة، والفروقات الاجتماعية والجيلية،...،إلخ. خامسا: قدرة مواطنى الشبكة على تطوير أنفسهم دوما.

ونخلص، مما سبق، إلى أن «يقظة مواطنيه», قد تبلورت من قبل المواطنين مؤسسة حالة من المواطنة اليقظة تجاه أى تقصير، أو فساد، أو تراجع، أو خطأ،...إلخ. فهى دائما فى حالة تواصل وباتت مبرمجة على أن تعبئ وتضغط من أجل التصويب، والتصحيح، والثناء، والدعم...وتفرض نقل الحوارات عبر التقنيات المختلفة إلى المجال الرقمي.

بالطبع، ومثل كل جديد عرفناه فى الماضي. فإن كل جديد مثل ما له من إيجابيات له سلبيات. وهو ما يرصده كاستلز فى مجلداته حول المجتمع الشبكي: سواء بسبب الاستخدام السيىء من قبل بعض المجموعات البشرية. أو الاستخدام المؤسسى التى تريد استخدام التقنيات الحديثة لصالح قيم الهيمنة القديمة. إلا أن المهارة التى يجب أن نتحلى بها جميعا تقوم على كيفية تعظيم فرص التحول الديمقراطى دون أضرار أو لنقل بأقل أضرار ممكنة. كذلك كيف يمكن استثمار المواطنة اليقظة كفعل إيجابى يصب فى نجاح خطط التنمية من أجل الدولة والمجتمع. فيسهم الجميع ــ بحسب أحد الباحثين ــ من أجل: ازدهار ثقافة حقيقية تشاركية تتجاوز الانغلاق، والعزلة، والانصراف، والسلبية، والتباكي، والسباب،...،إلخ، من قبل الجميع: النخبة السياسية والمواطنين، والتفاعل الحر الإيجابى انطلاقا من قاعدة اليقظة المواطنية لبناء الأوطان.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern