تهدف شبكات المواطنة الجديدة إلى خلق حالة تواصل معرفية، ولاحقا عملية، بين مجموعة من المواطنين، حول قضية أو أكثر من القضايا التى تهمهم، بشكل مباشر. وهكذا تتبلور الديمقراطية من أسفل، أو الديمقراطية التشاركية، أو المواطنة الرقمية...
شبكات المواطنة الجديدة؛ هى نمط من التنظيم الذى لجأت إليه شرائح وطبقات اجتماعية وفئات نوعية كى تعبر عن نفسها ومطالبها من خارج أشكال التنظيم النمطية المتعارف عليها تاريخيا. وذلك عندما وجدت هذه الفئات والطبقات أنها غير ممثلة أو لا يتم التعبير عنها من خلال هؤلاء المفترض أن يمثلوهم فى المؤسسات الديمقراطية التمثيلية المتعارف عليها مثل: البرلمان، والنقابات المهنية، والاتحادات النوعية... فمن جهة، تعكس هذه الشبكات، كيف أن هناك ـــ ما أطلقت عليه فى دراسة نشرت فى 2013 ــ الحركية المجتمعية الجديدة التى لم تعد عناصرها تجد نفسها فى الأشكال الديمقراطية التمثيلية التى باتت قديمة بالنسبة لها. ومن جهة أخري، إصرار العناصر المنتخبة لتمثيل المواطنين على التعامل معهم على أنهم زبائن، أو أذرع لأيديولوجيات: ثروية أو دينية، أو كتلة جماهيرية ذات صوت واحد. وهى حالات تجاوزها الواقع، لأسباب كثيرة، منها:
أولا: تحول المؤسسات التمثيلية التى تم التوافق عليها لتمثيل المواطنين، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى مؤسسية مغلقة يشوبها الكثير من اللغط.
ثانيا: مع مرور الوقت، اكتشف المواطنون أن كيانات الديمقراطية التمثيلية (التاريخية) لم تستطع الدفاع عن العقود الاجتماعية التى تم توقيعها بينهم وبينها. فعلى سبيل المثال، كان العقد الاجتماعى فى أوروبا الغربية يقوم على تأسيس وتأمين دولة الرفاه الاجتماعية للمواطنين. لكن لم تستطع نخبة هذه الدول حماية الرفاه من التهديدات التى تعرض لها من جراء تداعيات الأزمات الاقتصادية والمالية المتعاقبة.
ثالثا: بزوغ أجيال جديدة ذات تطلعات مغايرة وتنتمى إلى زمن مختلف... زمن يحمل نموذجا ثقافيا (Paradigm)؛ يختلف كليا عما سبقه.
رابعا: ثورة التكنولوجيا الرقمية التى أتاحت للمواطنين سبلا جديدة للحضور الفاعل فى مجال اُطلق عليه الافتراضي، وظنى انه لم يعد كذلك. مما أتاح لهؤلاء المواطنين الانتظام والضغط بطرق مبتكرة ومن ثم الحراك الميداني. وتعتبر حركتا بوديموس الإسبانية، وال5 نجوم الإيطالية من النماذج الدالة فى هذا المقام. (وسوف نعرض للتجربتين لاحقا. ونشير إلى أن كم الدراسات والرسائل التى صدرت حول هذه الظاهرة خلال السنوات الخمس الأخيرة كبير جدا. ومن أهم ما نشر فى هذا المقام ما كتبه عالم الاجتماع إيمانويل كاستلز فى Communication Power - 2013, Networks of Outrage & Hope - 2015). خامسا: بزوغ طبقات جديدة لا تحظى بالعناية: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. وتأخر الدراسات عن رصد جذورها وتشكلها حتى الدول المتقدمة لم تنتبه لهذه الظاهرة إلا مؤخرا. (حالة بريطانيا فى الكشف عن طبقة البريكاريات أو طبقة المنسيين أو المهمشين أو الطبقة الخطرة الجديدة التى قدرت بنسبة 15%، وإذا ما أضفنا إليها طبقة العمالة الخدمية المؤقتة والتى تقدر بنسبة 19%. سوف نجد لدينا كتلة قوامها 34% تعانى التهميش الاقتصادى والسياسي).
ساهمت هذه الأسباب، فى محاولة البحث عن وسيلة للتعبير، والمشاركة، والرغبة لإرجاع السلطة إلى الشعب كما يقول عالم الاجتماع الفرنسى ريمى ريفيل (1959 ــ ) فى كتابه الذى أشرنا إليه فى مقالنا السابق: الثورة الرقمية، ثورة ثقافية... وقد كانت الشبكات الاجتماعية، الرابط إلى إعادة تشكيل طرق المشاركة السياسية، وكيفية إعادة تشغيل مفاهيم التمثيل السياسى والمدني، والانخراط فى الشأن العام، والمواطنة. مما أدى إلى أن يطور أنصار الديمقراطية التمثيلية من أدواتهم السياسية بغرض توسيع عمليات التشاور عبر استطلاعات الويب، ومنتديات النقاش، وعرض الاقتراحات، وتقديم عرائض عبر الانترنت ليس من قبل المواطنين فقط وإنما من قبل السياسيين وممثلى الحكومة أنفسهم خاصة فيما يتعلق بالقضايا الخدمية التى تهم المواطنين. وبالطبع سرعة تحسين صورة السياسيين المنتخبين أمام منتخبيهم المواطنين متى لزم الأمر.
والثابت أن شبكات المواطنية الجديدة قد نفحت حيوية جديدة على العملية الديمقراطية. إلا أنها لم تمنح الأحزاب القديمة وممارساتها العتيقة نفس الدرجة من الحيوية. فمالت إلى دعم الأحزاب والحركات الجديدة. فزمن العضوية الحزبية إلى ما شاء الله لم يعد محبذا. كذلك ما أسهل إدارة الظهر للأحزاب التاريخية القديمة والجديدة على السواء. ونشير هنا إلى فرنسا والسويد. ففى الأولى نجد المواطنين وقد أداروا ظهرهم بعض الشيء للأحزاب القديمة، فيما عرف: بالزلزال، والقطيعة مع الماضي، والزمن السياسى الجديد، وانتخبوا حزبا عمره عامان لحكم فرنسا وهاهم يتظاهرون ضده فى الأسبوع الماضي. وأقصد حزب ماكرون إلى الأمام. وفى السويد تراجع الحزب الحاكم الذى يحكم منذ ثلاثينيات القرن الماضى فيما وصف أيضا بالزلزال ــ لمصلحة القوى البازغة... القوى التى بزغت بفعل الثورة الرقمية فاستعادت كتلا جماهيرية إلى السياسة كانت إما مستبعدة قسرا، أو منصرفة بإرادتها. إنها شبكات المواطنة الجديدة. وهى قوى تتراوح بين اليمين واليسار باتت قادرة على مزاحمة، ومنافسة...إلخ، الأحزاب التقليدية... وظنى أنها ظاهرة باتت ممتدة فى شتى ربوع الكوكب امتدت إليها الثورة الرقمية حيث تتفاوت تجلياتها المواطنية وفق التطور الاجتماعى لكل دولة من الدول... ونتابع...