بدأ اهتمامنا بقضية المواطنة منذ مطلع التسعينيات، وحرصنا على أن نطلع على أدبياتها الأساسية، وأن نتابع جديدها إلى يومنا هذا. ويمكن القول إن هناك نقلة جذرية فى المواطنة: المفهوم والممارسة؛ بفعل التقدم المطرد فى عالم الانترنت والتكنولوجية الرقمية. إنها بحسب عالم الاجتماع الفرنسى ريمى ريفيل: الثورة الرقمية: ثورة ثقافية.(2014، ترجمه مؤخرا سعيد بلمبخوت فى سلسلة عالم المعرفة ــ يوليو 2018)... فما هى سمات المواطنة الرقمية وأثرها على الواقع؟
خلصنا من خلال دراستنا المبكرة للمواطنة إلى أنها تعكس: حركة الإنسان اليومية، النضالية، من أجل اكتساب الحقوق بأبعادها: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والثقافية. وبلوغ المساواة بالرغم من أية اختلافات: لونية أو عرقية أو دينية أو مذهبية أو لغوية أو جنسية أو جهوية أو جيلية أو طبقية وأخيرا الاختلاف فى المكانة. وأخيرا الاقتسام (التوزيع) العادل للموارد العامة للبلاد انطلاقا من قاعدة اقتصادية انتاجية. وهو تعريف، فيما أظن، حرر المصطلح من سيطرة الطابع الدينى عليه واقتصار المواطنة، فقط، على العلاقات الدينية بين المواطنين وهو امر لا يمثل أى زاوية فى الموضوع. كما خلصه من التعريف الضيق: الدستورى والقانوني، الذى يحصره فى حديث الحقوق والواجبات. كذلك فك الارتباط الوهمى والأحادى بينه وبين حديثى الولاء والانتماء. فالحركة النضالية للمواطن هى جوهر المواطنة.
وتمارس المواطنة عبر المجال العام: السياسى والمدني. والثابت أن هذه الممارسة، فى صورتها التقليدية المتعارف عليها، لا تكون متاحة لجميع المواطنين لاعتبار أو لآخر.
ولكن الانفجار الكبير فى عالم تكنولوجيا الرقميات قد أتاح الفرصة لجميع المواطنين على اختلافهم أن يعبروا عن أنفسهم بطريقة أو أخري. وفى هذا المقام يقول العالمان فى مجال الاتصال السياسى بجامعة ليدز: ستيفن كولمان وجاى بلاملير إن الانترنت أصبح يلعب دورا جوهريا فى دعم وانطلاق المواطنة الاجتماعية.(راجع The Internet & Democratic Citizenship : Theory, Practice & Policy 2010)... والأهم هو أن تقنيات التواصل الاجتماعى التى تتطور وتتجدد بصورة متسارعة باتت ماكينة كونية داعمة ودافعة لتنامى القوة التواصلية للمواطنين Communicative Power of Citizen؛ كل المواطنين دون استثناء: الغنى والفقير، والرجل والمرأة، الكهل والشاب،...،إلخ. وأن ما كان يطلق عليه المجال الافتراضى قد صار حقيقيا ومؤثرا وفاعلا. وحل محل السياسى والمدنى والاجتماعى بصورهم النمطية...
ويمكن القول إن الثورة الرقمية قد بلورت ما يمكن ان نطلق عليه: الحضور المواطنى الفاعل. حيث اتسم هذا الحضور بالملامح التالية: أولا: تشجيع المواطن: النشط من الأصل، والخامل، والعازف عن وعي، إلى المشاركة فى الشأن العام بصورة أو أخري. ثانيا: اسقاط الجدران، والحواجز، والمصافى (الفلاتر)، التى تعوق أو تعطل عملية المشاركة. ثالثا: اتاحة الفرصة أمام وجهات النظر المتنوعة (بغض النظر عن نوعية ومكانة أصحابها) فى شتى القضايا. رابعا: الاشتباك الفورى المباشر بين وجهات النظر المختلفة. خامسا: تكون مجموعات تتوافق فيما بينها تجاه قضية من القضايا من خلفيات مكانية مختلفة. حيث تتواصل بلا توقف أو كما يقولون: 24 /7. سادسا: خلق تحالفات مستقلة من خارج المؤسسات القائمة (دائمة ومؤقتة حسب القضية محل النقاش). سابعا: خلق حالة حوارية مفتوحة، وغير مشروطة، وغير موجهة، وغير مقيدة. تقوم هى بوضع تقاليدها بنفسها من خلال الممارسة. ثامنا: تحقق نوعا من الديمقراطية المباشرة ــ نسبيا ــ أو التشاركية التى تؤمن أن تصل تطلعات المواطنين إلى كل من يهمه الأمر. وخلق حالة ديناميكية سريعة ومؤثرة من أجل التعبئة والضغط فى اتجاه تلبية احتياجات المواطنين. خاصة مع التراجع المتزايد للثقة فى قدرة الديمقراطية التمثيلية على الاستجابة لاهتمامات المواطنين. ثامنا: الانتقال من حالة التلقى والإرسال بين السياسيين والمواطنين إلى حالة الحوار المفتوح والمباشر. تاسعا: ابتكار أشكال من التواصل الحوارى التقنى المهمة مثل: المنتديات، والمنصات، والمجموعات المتألفة، والتبادلية،...،إلخ.
فى هذا السياق، يتحرك المواطن حركة شبكية دائمة لا سقف لها، وهو فى غرفته. محققا المواطنة الرقمية...أو الديمقراطية الالكترونية (التشاركية التى كتبنا عنها فى مقالنا الأسبوع الماضى (أوE-Democracy من أسفل تمييزا عن التى من أعلى حيث تستخدم فيها المؤسسات التقليدية التكنولوجية الرقمية فى أعمالها الطبيعية مثل: تنظيم جلسات استماع عبر الفيديو كونفرس مثلا وهو أمر آخر).
ويرصد لنا، فى هذا المقام، ريمى ريفيل فى كتابه: الثورة الرقمية: ثورة ثقافية؛ كيف دعمت ثورة التكنولوجية الرقمية مواطنيتها (إن جاز لنا قول ذلك)... يذكر لنا كيف انطلقت المواطنة الرقمية فى عام 2005، وتحديدا من فرنسا عندما تواصل المواطنون فى حوار سياسى عميق عن الموقف من استفتاء 2005 حول الدستور الأوروبي. وكيف أظهرت البحوث أن هناك رأيا عاما واسعا ــ كان طافيا آنذاك ــ لديه وجهة نظر مخالفة لموقف الطبقة السياسية والإعلام التقليدى التى لم تعن بأن تتيح فرصة للإعلام غير الظاهر او الطافي.. كذلك الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية لباراك أوباما فى 2008 حيث كان للمدونات والشبكات الاجتماعية ولاسيما الفيسبوك تأثيرها الحاسم خاصة فى وسط الشباب. ويجمع الباحثون على أن حملة أوباما قد أسست لزمن جديد عنوانه المواطنة الرقمية التى تؤسس لممارسات وعلاقات وتشكيلات جديدة...ونتابع..