إنها الديمقراطية؛ القادرة على انقاذ العالم، وإعادة اكتشاف الأصوات المتنوعة، وفتح المجال أمام المواطنين لامتلاك قدرهم، بالتعبير، والتفكير فى مصائرهم، وتقرير ما يرونه مناسبا، والعمل على ضمان تنفيذه بأنفسهم...ولتحقيق ذلك عليهم أن يتواصلوا مع بعضهم البعض على تنوعهم، واختلاف مواقعهم ومواضعهم،...إنها الديمقراطية التشاركية: ديمقراطية المستقبل أو ديمقراطية العصر الجديد...
وردت الكلمات السابقة فى الكتاب العمدة والمرجعى «الديمقراطية القوية» لعالم السياسة الأمريكى بنجامين باربر (1939 ــ 2017)،(320 صفحة ــ صدر فى عام 1984، وأعيد طبعه أكثر من 25 مرة على مدى ربع قرن). فلقد كان باربر مؤمنا بان الديمقراطية التمثيلية التى توافق حولها العالم وتم اعتمادها كإطار للعملية السياسية، صدقا أو كذبا، بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تتراجع لصالح ما أطلق عليه الديمقراطية التشاركية. ذلك لأن هناك حراكا قاعديا متناميا لم يعد قانعا بما يعرف بالديمقراطية التمثيلية أو النيابية، حيث ينوب البعض عن الأغلبية لتمثيلهم سياسيا واجتماعيا فى الهيئات البرلمانية. وأصبح المواطن يميل إلى أن يمثل نفسه دون وسطاء كلما رغب فى ذلك. أى أن يكون المواطن، أيا من كان، محورا للعملية الديمقراطية ومركزها وهدفها.
وقد حدث هذا التحول المهم عندما ثبت أن الديمقراطية التمثيلية قد حولت الناخبين إلى أداة لانتخاب شبكات الامتيازات المغلقة. الذين ما أن يصلوا إلى مقاعدهم فى الهيئات التمثيلية المختلفة نجدهم يتفرغون لخدمة المصالح الضيقة لهذه الشبكات. وينسون مصدر شرعيتهم التمثيلية، أى المواطنون.
وفى هذا السياق، يرصد باربر أنواع الديمقراطية الموجودة فى العالم، والتى تطبق فى أكثر من مكان، كما يلي: أولا: الديمقراطية السلطوية. ثانيا: الديمقراطية القانونية. ثالثا: الديمقراطية التعددية. وكلها تصنف باعتبارها ديمقراطية تمثيلية. نعم تؤمن قدرا من الديمقراطية النسبية ولكنها لا ترقى لأن تكون ديمقراطية قوية فى العصر الجديد. حيث إن قوة الديمقراطية تعنى مشاركة الناس فى كل صغيرة وكبيرة فى أمور الحياة اليومية، أو بتعبير أدق: إنها الحكم الذاتى للمواطنين، وليس الحكم باسمهم أو تمثيلهم.
دعم الكثيرون، تصور باربر، بأن المستقبل سوف يشهد اتجاها متناميا نحو الديمقراطية التشاركية بفعل ثلاثة عوامل حاسمة وحاكمة فى آن واحد هى:
أولا: الرفض المتزايد لعناصر منظومة الديمقراطية التمثيلية: المؤسسية، والأيديولوجية، والسياساتية، والعملياتية، التى عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. لذا نرى حركات ترفع لافتة ضد Antiحيال: المؤسسات القديمة والأيديولوجيات العتيقة والسياسات الفاشلة؛ التى لم تحقق إلا المزيد من تعميق اللامساواة على كافة المستويات. مما دفع إلى البحث عن الحضور السياسى والمدنى خارج هذه المنظومة التى فقدت صلاحيتها. أو بلغة أخرى محاولة استعادة المجال العام: السياسى والمدني، من احتكار القلة السياسية والمالية.
ثانيا: التواصل القاعدى الشبكى الواسع بين المواطنين على اختلافهم الذى بدأ من خلال الأشكال التقليدية المتعارف عليها ولكنه سرعان ما تطور وتكثف وامتد بفعل التقدم المطرد للتكنولوجيا الرقمية أو ما بات يعرف بتقنيات التواصل الاجتماعى التى ولد من طفراتها المذهلة ما يمكن أن نطلق عليه: مواطن الشبكة Netizenوهو مصطلح استخدمناه مبكرا، اعتمدته أدبيات المواطنة ــ وعرفنا به فى كتابنا المواطنة والتغيير ــ 2006).
ثالثا: ميلاد جيل جوجل، إن جاز التعبير، بما يحمل من سمات مغايرة تماما عن الأجيال التى سبقته أو أجيال ما قبل جوجل. فجيل جوجل يتسم بالاستقلالية، والقطع مع الماضي، والبحث الذاتى عن المعلومة، والقدرة على المعرفة قبل إعلانها، والتمرد على المرجعيات التقليدية، ومؤسسات التنشئة التقليدية،..
أسهم الاقتران بين العوامل الثلاثة السابقة فى تبلور الديمقراطية الإلكترونية التى من شأنها أن تفتح المجال العام أمام الجميع، دون تمييز، لإسماع أصواتهم وما تحمل من أفكار وتصورات. ووجهات نظر ظلت مهمشة، أو تلك التى لا يُستمع إليها إلا نادرا؛ فى أى وقت، دون تنميق أو تجميل...كما سمحت أن تعيد الانتظام السياسى والمدنى وفق شروط مؤسسية غير نمطية لا يتحكم فيها رأس المال أو موازين القوى السياسية السائدة من خلال أحزابها التى تحتكر السلطة منذ عقود، كما لا تعطلها الاحتياجات اللوجستية مثل: توافر مقرات، أو غير ذلك.
ويرى بعض الدارسين فى الديمقراطية الإلكترونية؛ ميلاد حقبة للتشارك تعيد الكلمة إلى الشعب، ولإحياء النقاش العام وتشجيع التفكير الجمعى وإيجاد البدائل المختلفة، والعمل بشتى الوسائل على تنفيذ ما يصب فى الصالح العام،...،إلخ. هذه هى ديمقراطية المستقبل التى بشر بها باربر. والتي، أظنها، أصبحت واقعا أثر جذريا على أنماط المشاركة، وأشكال الحركة، وتوسيع مدى المجال العام، وتشجيع كتل مجتمعية على الحضور الفاعل السياسى والمدني، وخلخلة المستقر عبر عقود من هيكليات هرمية، وأبويات هرمة، وفتح ثغرات فى شبكات الامتيازات المغلقة على القلة،...،إلخ.
ولاشك، أن حركتى الخمس نجوم الإيطالية، وبوديموس الإسبانية هما التجسيد الحى للديمقراطية الإلكترونية التشاركية التفاعلية. كذلك التحركات الشبابية التى التفت حول مرشحى الرئاسة الأمريكية من خارج المؤسسية الحزبية التقليدية والتاريخية... إنها حركية مجتمعية تنقلنا إلى زمن جديد أسهم فى ميلاد المواطنة الرقمية التى نتحدث عنها لاحقا.