هل ينجحون فى تغيير وجه أوروبا؟

تعكس المتابعة المتأنية للانتخابات البرلمانية لكل من فرنسا، وألمانيا، والنمسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والسويد، والمجر، ودول أوروبية أخري، أن تحولا كبيرا يحدث فى دول القارة الأوروبية قد يغير وجهها جذريا خلال الفترة المقبلة...ما هى المعطيات التى تدفع بالمتابعين السياسيين إلى تأكيد ذلك؟

 

هناك ثلاثة معطيات واضحة تصب فى اتجاه أن هناك أوروبا أخرى قيد التشكل. يأتى أول هذه المعطيات فى أن التركيبة الانتخابية المستقرة ــ فى كثير من دول أوروبا ــ على مدى عقود تتعرض لتغيرات حادة. وذلك بدخول كتل مجتمعية تصويتية جديدة إلى بنية هذه التركيبة. ما أثر ــ بالتالى على نتائج العملية الانتخابية واختلال موازين القوى السياسية السائدة منذ الحرب العالمية الثانية لمصلحة كتل سياسية جديدة تتراوح بين اليمين الشعبوى القومي، واليسار الحركى الجديد. وتراجع وأفول كثير من الأحزاب القديمة العريقة.

وثانى المعطيات هو انتظام الكتل السياسية المجتمعية البازغة من أسفل فى تشكيلات مدنية جديدة خارج المؤسسية الحزبية القائمة منذ عقود. فرأينا حركات وأحزابا جديدة تتشكل يمينية مثل: الحرية الهولندي، وإلى الأمام الفرنسي، والبديل من أجل المانيا الألماني. ويسارية مثل: «الفنلنديون الحقيقيون الفنلندي»، وتحالف اليسار الجديد الألماني، وجيل فى محنة البرتغالي. ووسطية مثل: الشعب الدانماركي. كذلك من خلال حركات جماهيرية قاعدية مثل: بوديموس الإسباني، والـ5 نجوم الإيطالي، والواقفون ليلا الفرنسية، وسيريزا اليونانية.

أما ثالث المعطيات فهو أنه بالرغم من أن ملفى الهجرة إلى أوروبا(الرسمية وغير الرسمية)، والتطرف/العنف هما الملفان الأكثر بروزا وحولهما تدور المنافسة الانتخابية. فإن الواقع يشير إلى أن هذين الملفين يعدان مدخلا لفتح كثير من الملفات الأكثر خطورة وأهمية فيما يمس ما بات يوصف فى الأدبيات المتداولة بأوروبا المنهكة؛ اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، وثقافيا، من جهة. وما يمكن أن يؤول إليه الاتحاد الأوروبي، ككل، من جهة أخري.

وعلى الرغم من أن النخبة السياسية الراهنة, والمحتكرة الحكم لعقود, تعمل على تحويل النظر عن المعطيات الثلاثة السابقة التى تكشف عن تحولات حادة فى بنية المجتمع الأوروبي. وذلك بتبنى استراتيجية من عنصرين هما: الأول: الترويع من النزوع الشعبوى المتنامى باعتباره، فى جوهره، قوميا وفاشيا. وإغفال الحركات المجتمعية الراديكالية المواطنية. الثاني: توظيف ماكينة الإعلام التى تهيمن عليها الرأسمالية المالية الشرسة العابرة للحدود, الداعمة للسياسات النيوليبرالية التى أدت إلى أزمات اقتصادية طاحنة متعاقبة, فى التضخيم من نتائج النزوع الشعبوي. وهو نفس التكنيك الذى دأبت عليه نخبة حكم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث الترويع من الحركات القومية الشعبوية يعنى لجوء الأغلبية لنخبة الحكم طلبا للحماية من هذه الحركات التى تتسم بالتطرف. وعليه تستمر النخب التقليدية التاريخية فى الحكم.

إلا أن النقاشات الدائرة التى تبدأ من نقطة رفض الهجرة نجدها وقد امتدت لتتناول الكثير من القضايا والملفات مثل: دور الدولة، وكيفية تجديد دولة الرفاه، وضرورة خلخلة شبكات الحكم المغلقة التى تتمركز فيها السلطة والثروة، وفتح الطريق أمام الشباب والشرائح الاجتماعية الدنيا لتعبر عن نفسها، وكيفية مقاومة الفساد المستشري، وكيفية تجديد العملية الديمقراطية ودعم تحولها من الديمقراطية التمثيلية(المغلقة والنخبوية) إلى الديمقراطية التشاركية الأكثر استيعابا للشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا، وكيفية تجسير الفجوة الآخذة فى النمو بين القلة الثرية والأغلبية أو ما بات يعرف بظاهرة اللامساواة التاريخية،...،إلخ. وهى النقاشات التى كشفت عن أن الحراك القاعدى يحمل أسبابا عديدة أعمق بكثير مما هو ظاهر للعيان. وأنه إلى جوار الحركات والأحزاب القومية الجديدة هناك أخرى راديكالية مجتمعية تحمل نفس الهموم والدوافع التى تؤدى إلى الانتظام فى مواجهة: المؤسسية القائمة، والنخبة المسيطرة، والسياسات المتبعة.

ومن ثم دحض «تكنيك» التضخيم من تداعيات الهجرة إلى أوروبا كسبب وحيد للحراك الشعبي. واعتباره جوهر النزوع القومى للحركات الشعبوية. وتعميم الوصف على كل الحركات بما فيها الراديكالية المطالبة بالعدالة والمساواة والتى وصفناها ذات مرة بالمواطنية الجديدة التى تتجاوز يسار الوسط التاريخى الذى دأب على إبرام صيغ توفيقية أوصلت أوروبا إلى غضب قواعدها والتى بات لسان حالها: «لقد مللنا كل شيء، ومن ثم لابد من التأسيس لزمن جديد؛ بإعادة النظر فى كل شيء...ما يجعل ـ بحسب تعبير البعض ـ الديمقراطية الأوروبية على الحافة، وامكانية نجاح الحركية الأوروبية المجتمعية الجديدة بإنجاز قطيعة جريئة مع تقاليد الماضى .


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern