السويد: زلزال سياسى أوروبى جديد

مع كل انتخابات برلمانية لأى دولة من دول القارة الأوروبية، يتأكد لنا أن هناك «حركية مجتمعية» جديدة تتبلور عبر الحركات البازغة والأحزاب الناشئة التى تتقدم بخطوات ثابتة من خلال التنافسات التى تخوضها فى الانتخابات البرلمانية الدورية... حيث تشير النتائج إلى حقيقة مفادها أن الأحزاب التقليدية والتحالفات التاريخية ليسار ويمين الوسط على السواء تواجه تهديدا حقيقيا من الحركات والأحزاب اليمينية واليسارية الصاعدة.. وهو ما دفع أحد السياسيين الأوروبيين المخضرمين إلى أن يقول، معلقا على نتائج الانتخابات البرلمانية السويدية التى أجريت الأسبوع الماضي: إنه زلزال سياسى بحق...لماذا؟

 

يمكن أن نعدد ثلاثة أسباب لتفسير وصف ما جرى بالزلزال السياسى وذلك كما يلي: أولا: خسارة كل من الكتلتين السياسيتين الكبيرتين المتنافستين فى السويد على السواء: كتلة يسار الوسط التاريخية الحاكمة منذ ثلاثينيات القرن الماضى (خسرت 15 مقعدا وتضم الاشتراكيين الديمقراطيين، والحزب اليساري، وحزب الخضر)، وكتلة يمين الوسط المنافسة الرئيسية التى تشكلت عام 2004 لتنافس الكتلة التاريخية الحاكمة (خسرت 14 مقعدا وتضم المعتدلين الديمقراطيين، وحزب الوسط، والديمقراطيين المسيحيين، والليبراليين). وذلك بالرغم من بقائهما فى المقدمة بنسبة 40% لكل تحالف(و144 مقعدا لكل تحالف). ومع ذلك لن يتمكنا من تشكيل الحكومة, لأنه يلزم الحصول على 175 مقعدا. ما يعد نقطة تحول تاريخية خاصة لتحالف يسار الوسط التاريخى الحاكم.

ثانيا: جاءت الخسارة التى منيت بها الكتلتان الرئيسيتان لمصلحة حزب الديمقراطيين السويديين (القومي) الذى حظى بما يقرب من 20% من الأصوات بزيادة تقترب من الـ7% عن انتخابات 2014. أخذا فى الاعتبار زيادة عدد المشاركين فى العملية الانتخابية بنسبة 85%، ما يقرب من 8 ملايين مواطن (من أصل 10 ملايين) لهم حق التصويت. ما يعنى أن هناك تغيرا جذريا قد طال توجهات وتحيزات واختيارات الكتلة التصويتية الكلية.

ثالثا: تترتب على ما سبق إعادة ترتيب المسرح السياسى بشكل جذري. من حيث التحالفات السياسية. وجدول أعمال السياسة السويدية المستقبلية.

خاصة ما يتعلق بالمشروع الذى عبرت عنه السويد تاريخيا واستمر إلى يومنا هذا، أو ما عرف بدولة الرفاه. ما يعتبر حراكا تاريخيا لما هو مستقر على مدى عقود.

فى هذا السياق، لا ينبغى اختزال ما جرى فى السويد باعتباره حراكاً لتجمع قومى شعبوى مناهض للمهاجرين فقط. وإنما هو أعقد من ذلك بكثير وإن رفع شعارات مناوئة لسياسة الحكومة السابقة فى استقبال المهاجرين. ذلك لأن الدراسات الأوروبية تشير إلى أن اللافتة القومية الشعوبية اليمينية من جانب واللافتة الحقوقية المطالبية الاجتماعية اليسارية من جانب آخر تخفى فى الواقع آلام من يئنون اقتصاديا واجتماعيا. ومن ثم يسعون إلى تطوير دولة الرفاه التاريخية بتنويعاتها المختلفة لتتوافق مع احتياجات الفئات الاجتماعية المنسية والمُفقرة. وفى الحالة السويدية تحديدا يمكن القول إن السويد من افضل الدول فى التعاطى مع مسألة المهاجرين وإن هناك آلية لتنظيم هذه المهمة. إلا أن التيار القومى البازغ جعل منها قضية محورية تعينه فى تناول القضية الأهم والأشمل ألا وهي: مستقبل دولة الرفاه... أو بحسب أحد الباحثين كيفية إعادة الاعتبار للمسألة الاجتماعية وجعلها فى مقدمة الاهتمام. حيث تشير دراسة حديثة إلى أن الأحزاب والنخب السياسية القديمة وبرلماناتها لم تزل تمارس السياسة وفق خرائط طبقية قديمة ووفق معادلات سياسية عتيقة.

وتبزغ الحركات الجماهيرية الجديدة اليمينية واليسارية من خارج ما هو قائم كبديل لما هو قائم من أحزاب يمينية ويسارية، ويطرح استراتيجية بديلة تؤسس لديمقراطية راديكالية تشاركية جديدة قاعدية الجذور، بحسب عالم الاجتماع الأرجنتينى إرنستو لاكلاو (1935 ــ 2014) الذى يتم استدعاء أفكاره لتفسير ما يجرى من تحركات للكتل الجماهيرية.. خاصة أن كل الالتفافات التى جرت منذ أطلق تونى بلير أطروحة الطريق الثالث لترطيب تداعيات السياسات النيوليبرالية الجديدة قد فشلت. كما أن الثمار المتساقطة طال انتظارها. حيث احتجزتها ما أطلقت عليه شبكة الامتيازات المغلقة. وعليه تضاعف المهمشون.

والثابت الآن، أنه لا توجد دولة واحدة فى أوروبا إلا وبها حراك قاعدى يمارس السياسة من خلال تشكيلات حزبية يمينية مثل: الحرية الهولندي، وإلى الأمام الفرنسي، والبديل من أجل المانيا الألماني. ويسارية مثل: «الفنلنديون الحقيقيون» الفنلندي، وتحالف اليسار الجديد الألماني، و«جيل فى محنة» البرتغالي. ووسطية مثل: الشعب الدنماركي. كذلك من خلال حركات جماهيرية مثل: بوديموس الإسباني، والـ5 نجوم الإيطالي، والواقفون ليلا الفرنسية، وسيريزا اليونانية. (راجع مقالاتنا المبكرة حول ماذا يحدث فى أوروبا بالأهرام فى الأعوام الثلاثة الأخيرة كذلك دراستنا الحركية المجتمعية الجديدة فى أوروبا: من المواطن ــ الدولة إلى الكتل الجماهيرية ــ الشبكات بدورية الديمقراطية ــ يوليو 2018).

وهكذا تصعد الكتل الجماهيرية من أسفل ومن خارج المؤسسية القائمة. لا ترفض اللعب بقواعد اللعبة القائمة السلمية والمدنية. إلا أنها تفرض تشكيلاتها ذات الطابع القاعدى وتعلن أنها ضد النخب والسياسات القديمة...وما الزلزال السياسى السويدى إلا حلقة من مسلسل الحركية المجتمعية الجديدة...وأظنه سوف يطلق رياح التجديد على كثير مما استقر سياسيا وثقافيا...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern