«التنمية العادلة»؛ قضية كوكبية تاريخية ومصيرية. انشغل بها العقل الإنسانى على مدى العصور وباختلاف أنظمة الحكم. ومع نهاية الألفية الثانية أصبحت قضية القضايا، خاصة، مع فشل السياسات الاقتصادية من تأمين «العدالة» وتفاقم «اللامساواة» و«حدة التفاوت» فى «توزيع الدخل والثروة بين الأثرياء وباقى الفئات. ليس فقط فى البلاد النامية أو الفقيرة ولكن ربما بصورة صارخة فى الاقتصادات المتقدمة».. حول هذه القضية الساخنة، بلور الأستاذ الدكتور عثمان محمد عثمان، رؤية متميزة حول الإشكالية وتداعياتها فى السياق المصرى فى مؤلفه: «التنمية العادلة: النمو الاقتصادى، توزيع الدخل، مشكلة الفقر»، (إصدار روابط للنشر وتقنية المعلومات ــ 312 صفحة ــ 2016).
(2)
تنبع أهمية الكتاب من أمرين هما: أولا: مواكبة الدكتور عثمان للنقاش العالمى الدائر حول إشكالية «اللامساواة» المتزايدة باطراد، والتى أطلق الاقتصادى الفرنسى الشاب، توماس بيكيتى نقاشا كونيا حولها من خلال مجلده المرجعى المعنون: «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» (2014). ثانيا: المهمة المركبة التى عمل على إنجازها الدكتور عثمان من جهة التأصيل التاريخى النظرى للعلاقة بين النمو الاقتصادى وتوزيع الدخل للإشكالية. وأثر اختلال توزيع الدخل على النمو الاقتصادى وتزايد تفاوت توزيع الدخل من جهة.. ومن جهة ثانية، دراسة مسار نمط توزيع الدخل فى مصر تاريخيا من خلال إلقاء الضوء على السياسات الاقتصادية منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضى وإلى الآن، أخذا فى الاعتبار التحولات الحادة التى طالت طبيعة النظام الاقتصادى المصرى والنموذج التنموى المُتبع.. ومن جهة ثالثة، محاولة وضع مقترح بسياسات مالية لإعادة توزيع الدخل بما يضمن، فى النهاية، تحقيق ما يطلق عليه: «مثلث العدالة التنمية»...
(3)
ومثلث التنمية العادلة؛ لدى الدكتور عثمان، يقوم على تصويب السياسات التى تتعلق باستراتيجيات التنمية بحيث تراعى الربط بين هدف التنمية «المُستحق» ألا وهو: إزالة/ تقليل الفقر المطلق (العنصر الأول من المثلث). ما يتطلب المزاوجة بين عنصرى المثلث الأخرين: سياسات «النمو والتوزيع»... نمو الدخل من حيث المستوى والمعدل... ومن ثم تغير توزيع الدخل...
(4)
ويعطى التصور السابق، أولوية فى السياسة الاقتصادية للتصدى لمشكلة «الفقر»، و«منحها الأفضلية على تقليل حدة تفاوت الدخول». وهنا يميز الدكتور عثمان بين رؤيتين للفقر: الأولى: الفقر النسبى. والثانية: الفقر المطلق. حيث تختلف السياسة التنموية لكل رؤية. فتبنى «الفقر النسبى» سيؤدى إلى «نتائج غير مُثلى سواء للأسر الفقيرة أو غير الفقيرة». وأن تكون استفادتهم أقل مما يتوقع. إن الاعتناء بمسألة المساواة فى التوزيع قد يدفع السياسة الاقتصادية إلى تبنى تحقيق متوسط معدل للنمو فى حدود 2% مصحوبا بزيادة متوسط دخل الفقراء بنسبة 3%، وتفضيل ذلك على نمو اقتصادى بمعدل 6%، يزيد معه متوسط دخل الفقراء بنسبة 4%... ففى الحالة الأولى «سينحصر النمو مع التوزيع فى صالح الفقراء، بينما تستفيد كل الفئات (الفقيرة وغير الفقيرة) من سرعة واستدامة النمو. وتصل هذه الرؤية إلى استخلاص واضح بأنه عندما يكون الهدف هو تخفيض الفقر يصبح تبنى مفهوم الفقر المطلق هو الأكثر ملاءمة، ويكون على السياسة الاقتصادية العمل على رفع معدل النمو من أجل الإسراع بتخفيض نسبة الفقر»... ما يلزم أن نولى أهمية قصوى لمشكلة الفقر. وأن نطرح سؤالا أساسيا هو أى نمو اقتصادى يجب أن يطبق لتحقيق التنمية العادلة...
(5)
يقدم المؤلف من خلال كتابه الذى يحمل الكثير من التفاصيل والأرقام نموذجا لاجتهاد معتبر «للخبير المثقف» الذى يجمع بين البحث العلمى كباحث اقتصادى، والعمل التنفيذى كوزير للتخطيط والتنمية وكباحث فى دوائر دولية مهمة...نواصل مع «خبير مثقف» آخر...