«التاريخ يتذكر العلماء وليس قاضى محكمة التفتيش الذى أجبر جاليليو على إنكار معتقداته العلمية».. «لا إبداع بلا حرية ولا علم بلا تمويل».. «شاركت فى المظاهرات الطلابية، والباحث لا يجب أن يكون منفصلا عن واقعه السياسى».. «العلم فى طريقه للتحكم فى بناء الجزيئات وتصميم أدوية جديدة قادرة على مواجهة السرطان وألزهايمر».. «البروتينات البشرية تحل لغز معظم الأمراض فى المستقبل».. «السياسيون يجهلون أهمية العلوم والبحث العلمى، وللأسف العلم لن يجلب السلام للبشرية».
(2)
هذه بعض العبارات التى وردت على لسان مجموعة من العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل فى العلوم الطبيعية فى الكيمياء، والطب، وردت فى إطار أحاديث صحفية أجراها معهم الأستاذ محمد منصور، ونشرت فى «المصرى اليوم» على حلقات الشهر الماضى. أجرى «منصور» حواراته مع «علماء نوبل» فى مدينة «لينداو» على ضفاف بحيرة «بودنزيه» التى تحتل مساحة شاسعة بين ألمانيا والنمسا وسويسرا. حيث تحتضن المدينة، منذ عام 1951 وحتى الآن، أحد أشهر المؤتمرات العلمية المعروف باسم «ملتقى علماء نوبل السنوى».. وتكشف الحوارات، التى استمتعت بقراءتها، «دنيا» غامضة لا نعرفها. دنيا «العلماء الحقيقيين» المنشغلين بالقضايا الكبرى للبشرية. الذين وهم يعملون فى مجال تخصصهم الدقيق تكون عيونهم على: «الإنسان، والمجتمع، والعالم». فلا يوجد علم «محض» منفصل عن الواقع وتفاعلاته وتوازناته. فالعالم الحقيقى هو من تحكمه فلسفة علمية توجه عمله الإبداعى وتجاربه واكتشافاته وتربطها بضرورة تجاوز أخطار الحاضر وتمهيد المسارات نحو المستقبل الأفضل قدر الإمكان.
(3)
يقدم هؤلاء «النوبليون» الأجلاء نموذجا للعلماء من: «ذوى المعرفة الواسعة التى تتجاوز التخصص الضيق». الذين تحدث عنهم كتاب: «عقل جديد لعالم جديد» (لأورنشتاين وإيرليش، الذى ترجمه عالمنا الجليل الراحل أحمد مستجير). كذلك القدرة على الربط بين الحقول المعرفية والتأثيرات المتبادلة على بعضها البعض. فهم نتاج تتضاعف وتتجدد فيه المعرفة والتكنولوجيا بإيقاع غير مسبوق فى تاريخ البشرية. فلم يعد العالم هو الشخص الذى كان يقدم بصورة «كاريكاتورية للعالم المتخصص» دائم الضيق والعصبية والذى فى الأغلب يدخن الغليون (البايب) وغير منشغل بأى شىء سوى معمله وأدواته واكتشافاته. وإنما بات العالم هو من يوظف علمه وعمله وفق التزامه الأخلاقى والإنسانى. ونجده يجسد العقل الجديد فى العالم الجديد وقادرا على «تفهم طبيعة البشرية نفسها: جهازنا العصبى، فسيولوجيتنا، تاريخنا التطورى، وتاريخنا المدون، علاقتنا بالبيئة، مجتمعنا، أحكامنا الأخلاقية، وإمكانياتنا». لم يعد العلم (والتعليم) مقسما إلى: أدبى وعلمى، ولا منبت الصلة عن السياقات المجتمعية دائمة التحول.
(4)
وأظن أن القراءة المتأنية لحوارات «علماء نوبل» تكشف رؤاهم حول إبداعاتهم فى علاقتها بالإنسان. وفى الخلفية وعيهم بالسياق السياسى والمجتمعى والعالمى الذى نعيش فيه. بالإضافة إلى الالتزام الأخلاقى تجاه أنفسهم وعلمهم والإنسانية. ويبدو لى أن المقولة التى تقول إن تنامى المعرفة وتزايد القدرة الإبداعية يفرض التزاما أخلاقيا على ظهر هؤلاء العلماء، خاصة أن إبداعاتهم تتعامل مباشرة مع الصحة العامة للبشر وحياتهم، من جهة، كما تتعاطى مع قضايا سوء استخدام الابتكارات العلمية فى مجالات تهدد سلامة البشرية من جهة أخرى، بسبب السياسة والاقتصاد.
(5)
تحية إلى محمد منصور، الذى يبدو لى شابا من خلال الصور المرفقة بالحوارات، فى طرقه مساحة مهجورة هى: «الثقافة العلمية» التى بطبيعتها تأخذنا إلى المستقبل. وتمكنه من الموضوع الذى تصدى له لصعوبته والذى يتجلى فى نوعية الأسئلة المطروحة.. وتحية لـ«المصرى اليوم».. وأتمنى التوسع فى هذا الاتجاه.