الديمقراطية الإسبانية (2): المراجعة الشاملة والمستقبل

لاشك أنه على مدى الأربعين عاما الماضية، أى منذ تم وضع دستور التوافق فى 1978، قد جرت مياه كثيرة فى إسبانيا التى تمثل تجربتها الديمقراطية نموذجا مرجعيا فى كيفية التحول الناعم ــ على قاعدة التوافق ــ من الشمولية إلى التعددية.

فبالرغم من الحيوية التاريخية لهذا الإنجاز. إلا أنه قد تعرض إلى “إجهاد” واضح وخاصة فى العقد الأخير وتحديدا مع الأزمة الاقتصادية الأكثر شراسة فى التاريخ الانساني. وقد كان لهذا الإجهاد أثره على المقومات الثلاثة الرئيسية: الطبقة الوسطى القوية، والقضاء العريق، والإدارة المتميزة، التى يسرت التحول الديمقراطى فى إسبانيا وجعلت الديمقراطية الإسبانية الأكثر استقرارا وازدهارا فى العقود الأربعة الأخيرة. ومن ثم استدعى الأمر المراجعة الشاملة لواقع الديمقراطية الإسبانية ومستقبلها...كيف؟

أولا: بالنسبة للطبقة الوسطى؛ يشرح تشارلز باول، خبير التحول الديمقراطي، مدير معهد ألكانو الملكى (وقد شرفت بمقابلته فى زيارتى البحثية الرسمية لإسبانيا عام 2012 لفهم ودراسة التجربة الإسبانية وهو الملف الذى كنت مسئولا عنه وقتذاك وأذكر بالخير الجهد الذى بذله معالى السفير أيمن زين الدين سفيرنا آنذاك فى إعداد البرنامج المكثف للزيارة المفيدة)، الآثار الضارة التى ألمت بالطبقة الوسطى بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية. ما عرضها لجروح اجتماعية سوف تأخذ وقتا كى تتعافى منها. فكثير ممن ينتمون إلى هذه الطبقة بات لديهم يقين بأن ابناءهم وبناتهم سوف يعانون الفقر. وأن قوة الطبقة الوسطى التى كانت من أهم العوامل التى ساهمت فى تحول ديمقراطى ناعم قد تراجعت كثيرا. وأن خيبة الأمل تسود هذه الطبقة نتيجة عدة أمور منها: أولا: نظام تعليم معيب، وثانيا: عدم القدرة على استيعاب الكفاءات، خاصة فى وسط الشباب، وثالثا: الفجوة الجيلية بكل تداعياتها الاجتماعية والثقافية.

إلا أن الإيجابى فى الحالة الإسبانية هو القدرة على تحويل الغضب الاجتماعى إلى “فعل ديمقراطي” سلمى مدني. فى هذا السياق، انطلقت حركة بوديموس...وهى حركة تضم الأجيال الشابة الطالعة الغاضبة ولديها الكثير من الملاحظات على المؤسسات القائمة. وتشكل مجموع هذه الملاحظات، وبالتالى المطالب، حالة من حالات التواصل والترابط بين الغاضبين بالرغم من الاختلاف الطبقى والفئوي. حيث يوحد الغضب ــ تجاوزا ــ بين هؤلاء المختلفين فيصيروا معا: أو نحن فى مواجهة هم الذين أخفقوا عبر عقود عن تلبية احتياجات المواطنين. إنها حالة من التواصل المؤقت بين المختلفين فى لحظات الاختلال المجتمعى بحسب الفيلسوف الأرجنتينى إرنستو لاكلاو (1935 ـ 2014) الذى استلهمته بوديموس فى حركيتها(لمزيد من التفاصيل راجع دراستنا الحركية المجتمعية الجديدة فى أوروبا: من المواطن ـ الدولة إلى الكتلة الجماهيرية ــ شبكات المصالح، دورية الديمقراطية يوليو 2018). وعلى عكس بلدان أخرى لم تؤثر بوديموس كثيرا على فاعلية الأحزاب التاريخية بل على النقيض حفزتها على أن تجدد نفسها(تجربة تحتاج الكثير من إلقاء الضوء نفصلها فى مقال لاحق).

ثانيا: بالنسبة للسلطة القضائية؛ تشير المراجعات إلى أن صورة القضاء قد تضررت بسبب الشك فى هيمنة السياسة عليها منذ حكومات نهاية الثمانينيات. حيث تم اختيار القضاء عن طريق الكونجرس الإسبانى الذى كانت عضويته الغالبة موزعة على الحزبين الرئيسيين آنذاك. أخذا فى الاعتبار أن الغالبية العظمى من عناصر السلك القضائى ليست حزبية ومحافظة فى الأغلب. وقد دعم الشك فى القضاء، بالإضافة إلى شبهة التسييس، التأخر فى البت فى القضايا.

ثالثا: بالنسبة للجهاز الإداري؛ تشير المراجعات، ومنها دراسة صدرت مؤخرا عن مدى جودة المؤسسات الإسبانية ـ الكفء تاريخيا ــ إلى أنه قد أصابها قدر من التراجع. كما أن النخبة البيروقراطية أصبحت تحامى عن الحكومة وتدافع عنها State Lawyersأكثر من كونها تدير مصالح المواطنين باعتبار الجهاز الإدارى خدمة مدنية عامة للمواطنين.

يضاف إلى ما سبق، وجود اجماع على أن نظام الرفاه الاجتماعية قد أصبح يتسم بالكثير بالعيوب. ما أدى إلى أنه من بين كل خمسة طلبة يتسرب طالب منهم. كما أن الدراسات أثبتت ضرورة مراجعة النظام التعليمي. أخذا فى الاعتبار أن التعليم الفنى لم يزل يحتفظ بجودته. ومن الاحصائيات ذات الدلالة تزايد نسبة بطالة الشباب بين الـ20 والـ34. حيث تبلغ 23%. ولا يفوت المعنيين الإشارة إلى أن إسبانيا فى العقد الأخير قد استقبلت ما يقرب من 5 ملايين يمثل اللاتينيون ثلثهم.

وبعد، يخلص المراجعون للتجربة الديمقراطية الإسبانية إلى انه لا مفر من التمسك “بقيم التوافق” التى أقرها دستور 1978 من: فصل بين السلطات، وإقرار للتعددية، وتأمين عدالة اجتماعية للمواطنين. ولكن هذا لا يمنع من عمل إصلاحات حقيقية لعل من أهمها: استيعاب الكتلة الشبابية الصاعدة، وتفعيل الديمقراطية التشاركية التى تتجاوز الديمقراطية التمثيلية التقليدية. خاصة وأن إسبانيا أصبحت لها تجربة معتبرة فى مجال الحركات المجتمعية والتى أظنها فى الحالة الإسبانية قد جددت من عمر ديمقراطيتها ذات الأربعة عقود.

وقدمت أفكارا غير نمطية فى مجال السياسات الاجتماعية وإدارة المجتمع قاعديا من شأنها أن تغذى الديمقراطية الإسبانية لعقود أربعة أخرى.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern