الديمقراطية الإسبانية(1): حيوية التاريخ وإجهاد الحاضر

الديمقراطية الإسبانية؛ أنجزت الكثير فى أربعة عقود، ولكنها تحتاج إلى تصويب...عبارة تكررت، بتنويعات متعددة من قبل سياسيين وباحثين، فى مناسبات مختلفة فى الشهر الماضي. وذلك فى معرض تقييم التجربة الديمقراطية الإسبانية التى انطلقت قبل أربعين عاما وتحديدا فى عام 1978عقب التصويت على دستور التوافق التاريخى بين القوى السياسية، والملكية، والمؤسسة العسكرية، والكنيسة...

وهو الدستور الذى أعاد إسبانيا إلى الملكية الدستورية. وتم تكليف الملك خوان كارلوس ــ آنذاك ــ بإعلان الدستور الذى تم التوافق عليه من قبل المواطنين حيث صدق عليه الشعب الإسباني. والذى اتسم ــ كما جاء فى الديباجة ــ بما يلي: أولا: تأكيد مفهوم وحقيقة الأمة الإسبانية، وثانيا: ضمان التعايش الديمقراطى وفقا لنظام اقتصادى واجتماعى عادل، وثالثا: إقامة مجتمع ديمقراطى متقدم يقوم على التعددية السياسية والتنافسية الحزبية...ولكن قبل أن نعرض جانبا من هذا النقاش الثري. سنقدم خلفية تاريخية عن المسيرة النضالية الإسبانية من أجل الديمقراطية.

توافق الإسبانيون حول هذا الدستور بعد ما يقرب من قرنين من الصراعات الدموية والتغيرات الحادة. فلقد عرفت وتعرضت إسبانيا فى الفترة من 1812 إلى 1975 إلى ما يلي: أولا: ستة دساتير، ثانيا: أربع حروب أهلية. ثالثا: تحولات جذرية فى البنية السياسية من الملكية السلطوية(لمدة تزيد على الـ130 سنة، القرن التاسع عشر وحتى ثلاثينيات القرن العشرين)، إلى الجمهورية الديمقراطية(بداية من عام 1931 إلى 1936. ثم قيام الحرب الأهلية الشهيرة التى استمرت من 1936 إلى 1939)، إلى العسكرية الشمولية(من 1939 إلى 1975)...مثلت هذه الفترة الزمنية الممتدة منذ نهايات القرن الثامن عشر رصيدا تاريخيا مهما لدفع التحول الديمقراطى بعد 1975...أخذا فى الاعتبار أن إسبانيا كانت فى القرنين السادس عشر والسابع عشر امبراطورية هيمنت على العالم وكانت لها مستعمرات فى الكثير من المواضع وخاصة فى أمريكا اللاتينية.

كان الإسبانيون، فى خضم هذا الزخم التاريخي، يراكمون الكثير من المقومات التى مكنتهم من نجاح التحول الديمقراطى بسهولة خلال ثلاثة أعوام فقط من الفترة من 1975 إلى 1978. ومن خلال دراستنا الميدانية والنظرية للتجربة الإسبانية خلصنا إلى أن هناك ثلاثة مقومات يسرت عملية التحول الديمقراطى هي:

أولا: السلطة القضائية؛ حيث راكمت، إسبانيا، تراثا نصيا قانونيا معتبرا. كما استطاعت أن تقيم بنية مؤسسية قضائية حديثة قديرة.

ثانيا: عنيت إسبانيا منذ عام 1858 ببناء جهاز حكومى متطور مواكب ومستجيب لاحتياجات المواطنين. وفى إطار الصعود الأوروبى العام كان الجهاز البيروقراطى دائم التطور فى اتجاه الخدمة المدنية الشفافة والقابلة للمحاسبة والواضحة فيها المسئولية.

ثالثا: الطبقة الوسطى الإسبانية، فلقد حظيت بالعناية، خاصة فى فترة فرانكو من 1939 إلى 1975، من خلال تمتين قدراتها المتنوعة وحمايتها اقتصاديا. ومن ثم كان وعيها الاجتماعى والسياسى والثقافى مرتفعا يقترب كثيرا من بلدان أوروبا الغربية. لذا كانت حاضرة بقوة فى الأحزاب والنقابات المهنية والاتحادات العمالية من أجل نجاح عملية التحول الديمقراطي. وذلك بداية من دعم الدستور التوافقي، صياغة وتصويتا، والمشاركة العملية فى الانتخابات البلدية، والبرلمانية، ومواجهة الإعاقات التى تعرضت لها الديمقراطية البازغة التى استغرق مخاضها أربع سنوات من 1978 وحتى 1982 تاريخ أول انتخابات ديمقراطية وفق دستور التوافق...وها قد مر 40 عاما أو أربعة عقود على بدء انطلاق الديمقراطية الإسبانية. فى هذا السياق، المسار التاريخى النضالى من أجل الديمقراطية قبل دستور التوافق فى 1978 من جهة. ومن جهة أخري، مرور 40 عاما على الديمقراطية الإسبانية، وفق هذا الدستور، انطلقت مراجعات كثيرة معتبرة، لتقويم الحاضر، واستشراف المستقبل فى الـ40 عاما القادمة.

من حيث المبدأ، هناك اتفاق على «حيوية» التاريخ السياسى الإسبانى ودور المواطنين النضالى من أجل تحقيق الديمقراطية. وقد تمثلت هذه الحيوية فى تراكم المقومات(طبقة وسطى قوية، وسلطة قضائية عريقة، وجهاز إدارى حديث) التى ضمنت تفعيل الديمقراطية عمليا بجدية وجودة عالية على مدى أربعة عقود... مما دفع البعض بوصف الديمقراطية الإسبانية بالديمقراطية المستقرة والمزدهرة Stable & Prosperous Democracy...وأن حصادها كثير وكبير...نرصد منه ما يلي: استقرار النظام الحزبى وحيويته، والحضور المواطنى الفاعل فى العملية السياسية والمدنية، وتثبيت دولة القانون، وتأكيد مبدأ الفصل بين السلطات، والكفاءة العالية لعمل مؤسسات الدولة، والمواجهة الحاسمة لإشكاليات الفساد،...

ولكن بالرغم من كل ما سبق وفى إطار المراجعة التى تعد تاريخية. رصد الباحثون أنه بالرغم مما بلغه الإسبانيون من استقرار وازدهار ديمقراطى فإن هناك اجهادا Strain واضحا على المجتمع الإسبانى فى الحاضر. بدأ هذا الإجهاد، بحسب الكثيرين، فى العقد الأخير، من العقود الأربعة، وتحديدا مع تفجر الأزمة الاقتصادية الكبرى فى 2008 التى تركت الكثير من الجراح الاجتماعية. وفى إيجاز ــ نفصله لاحقا ــ يمكن رصد ملامح إجهاد الحاضر فيما يلي: إضعاف الطبقة الوسطي، وإلحاق الأعطاب بمؤسسات الدولة، والكشف عن إلى أى مدى نظام الرفاه الاجتماعية، بحسب الطبعة الإسبانية، معيب،...وهو اجهاد يحتاج إلى تشخيص وعلاج وتصور مستقبلى جديد.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern