رؤى للعالم الذى نعيش فيه 6

بات العقل الانسانى المعاصر فى حالة استنفار غير مسبوقة تاريخيا. فى محاولة لفهم طبيعة التحولات النوعية التى طرأت على العالم، وملامح الدنيا الجديدة الآخذة فى التشكل...وتشير المتابعة المتأنية للأروقة الذهنية: الأكاديمية، والبحثية، والسياسية، والإعلامية، إلى الانشغال المحموم بما يجرى من تحولات وما ستؤدى إليه فى بلورة العصر الجديد... ومن ثم ما الذى يجب على البشرية أن تعمل عليه لتيسير (تليين) عملية التحول من جهة. ومن جهة أخري، رسم صورة العالم الجديد بما يحمل من منظومة قيم وأفكاره وعلاقات جديدة.

حول طبيعة اللحظة الراهنة، وما سيؤول إليه العالم. تطرح دورية فورين أفيرز، التى تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، فى عددها الأخير(يوليو/أغسطس ــ 2018)، سؤالا هو: أى عالم نعيش فيه... أسهم فى الإجابة عليه كوكبة من المتخصصين. وكانت محصلة هذا التدريب الذهنى المهم والمميز هو تبلور ست رؤى توصف عالم اليوم. نشير إليها فى كلمات مركزة ــ فى حدود المساحة المتاحة ــ كما يلي:

أولا: الرؤية الواقعية للعالم؛ حيث يطرح صاحبها بروفيسور التاريخ فكرة مفادها أن التنافس بين القوى الكبرى هو الذى يصنع التاريخ. وأن التنافس الراهن بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ومدى قدرة القيادة المركزية فى كل من بكين وواشنطن على ادارة التنافسية الكونية الجديدة. خاصة أنه سيترتب عليها جغرافيا سياسة جديدة غير التى عرفها العالم.

ثانيا: الرؤية الليبرالية للعالم؛ وهى مساهمة ثنائية لأستاذين فى العلوم السياسية، حيث أكدا أنه بالرغم من الأزمة التى تواجهها الديمقراطية. فإن الليبرالية من المرونة للتغلب على أى تحديات. ومن ثم استمرارية النظام الدولى فى الأخذ بها.

ثالثا: الرؤية القبلية/العشائرية للعالم؛ ويطرح صاحبها عودة الاصطفاف البشرى على أرضية قبلية/عشائرية. أو الاندماج إلى مجموعة تربطها هوية واحدة. وبهذا تأتى الهوية فوق/قبل القومية والأيديولوجية.

رابعا: الرؤية الماركسية للعالم؛ وهى رؤية يؤكد صاحبها أن الصراع الطبقى هو المفتاح لفهم ما يجرى من تفاعلات بين المواطنين الذين يصطفون فى طبقات اجتماعية متعارضة المصالح. وكيف أن ماركس كان محقا. فالأغنياء يزدادون غنى ومقابل كتل بشرية مطحونة. ما يؤدى إلى أزمة فى المنظومة الرأسمالية. ومن ثم السؤال الذى يطرح نفسه هل تستجيب الرأسمالية للأزمة؟

خامسا: الرؤية التكنولوجية للعالم, وهى رؤية شديدة الثقة بأن تضاعف المعرفة العلمية والتجدد التكنولوجى المتسارع سوف ينقلان العالم إلى وضع جديد تماما على سكانه الذين عليهم ربط حزام ركوب مركبته.

سادسا: الرؤية الكارثية للعالم؛ التى ترى البشرية فى حالة صراعية مع ما تتعرض له البيئة من انتهاكات رأسمالية. ويعد العنوان الرئيسى لهذه الانتهاكات هو مصيبة التغير المناخي. خاصة أن تداعيات هذا التغير سوف تطال الجميع دون تمييز.

بالطبع هناك تفاصيل كثيرة كل أطروحة حول اكتشاف واقع العالم اليوم. كما أن هناك حصادا معرفيا كبيرا ـ موجودات تضمنتها المقاربات الست. لعل أولاها: هو أننا نعيش عصرا ــ أو فى اتجاهنا إلى عصر ــ مختلف كليا عن كل ما عرفته البشرية. ثانيتها: الحضور المواطنى الجماهيرى سوف يكون حاكما وفاعلا فى مواجهة المؤسسات القديمة. (وبحسب دراستنا المنشورة أخيرا فى دورية الديمقراطية المعتبرة ـ يوليو 2018)، من خلال تحرك الكتل الجماهيرية، خارج المؤسسات التقليدية السياسية والمدنية والدينية لتواجه، هيمنة شبكات المصالح ومؤسساتها وتشريعاتها وسياساتها. وهو ما انطلق فى كل دول أوروبا دون استثناء وفى أمريكا والمكسيك وكثير من دول العالم بدرجات متفاوتة. ثالثتها: ما التساؤل المطروح ــ وقبله قدمنا محاولة مجلة الإيكونوميست التى طرحت محاولة مشابهة من خلال سؤال ماذا إذا؟ الذى تناول قضايا حيوية عدة تواجه العالم، عرضنا لها فى مقالنا الأسبوع قبل الماضى إلا محاولة من العقل الإنسانى لمساعدة صناع القرار والساسة والعلماء والقادة فى كل مجال بالتعاون مع المواطنين أصحاب المصلحة الحقيقية فى تأمين مستقبل آمن. ذلك لأن أفكار وسياسات وديناميكيات وتكنيكات زمن الثورة الصناعية أو غيرها من أزمنة سابقة قد عفى عليه الزمن...رابعا: أن المقاربات الست وإن قُدمت منفصلة(لأسباب منهجية علمية) إلا أنها تعمل كلها ــ وفى وقت واحد ــ بشكل متزامن ومتداخل معا، بآلية، يصعب الفصل بين عناصرها. وما الفصل إلا لتأكيد مدى التعقيد الذى نعيشه فى عالم اليوم... وأن عالم اليوم ليس عالما بسيطا يمكن وصفه وصفا سهلا ومباشرا، وإنما هو عالم مركب يتسم بعناصر فاعلة شديدة التراكب.

فلا يجد حلا لواقع عالم اليوم إلا من خلال رؤية شاملة وسياسات متكاملة...فمواجهة الاختلالات المناخية ليست مسألة علمية محضة، وإنما لابد من التعاطى معها فى إطار رؤية جديدة تشمل نمط الانتاج والمواد الأولية المستخدمة فى إطار نظام اقتصادى عادل وحوار ديمقراطى دائم بين كل الأطراف المعنية. وهكذا بلغة أخرى لم يعد مجديا التعامل القطاعى مع مشكلات المجتمع مثل: عمالة الأطفال، الزيادة السكانية، الاقتصاد الأسود، الانصراف السياسى إلا من خلال رؤية تنموية شاملة مترابطة السياسات..آلياتها التنفيذية فى تناغم وتكامل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern