محنة الإدارة منذ محمد على

(1) من الثابت تاريخيا، أن محمد على قد اهتم بأن يعيد تشكيل «الجهاز الإدارى» فى مصر بما يتناسب مع طموحاته فى بناء دولة مصرية مستقلة ممتدة. وبحسب توصيف دقيق للمؤرخ الراحل الكبير رؤوف عباس: «أن يصيغ نظاما إداريا يتجاوزـ بعض الشىءـ منطق الجباية والأمن، إلى إدارة الاقتصاد وأعمال المنافع العامة، والخدمات».. فعمل على إنشاء ثلاثة تنظيمات إدارية كما يلى: أولا: «المجالس الاستشارية». وثانيا: «الدواوين». وثالثا: «المصالح». والأهم أنه وضع «السياستنامة» أو الوثيقة الأولى التاريخية التى اعتمدها محمد على فى تطوي

ر النظام الإدارى. حيث تضمنت ثلاثة أقسام. عنى أولها: ببيان الترتيبات الأساسية: ويتضمن النظام الإدارى السياسى. وثانيها يقدم شرحا للإجراءات الإدارية. وثالثها عرض للعقوبات التأديبية...إلا أن ما أسسه محمد على، وبالرغم من أنه كان جديدا على مصر، بكل المعايير، إلا أنه تعثر ولم يؤت بالثمار التى كان يتوقعها الحاكم الذى كان يحلم بالاستقلال عن الباب العالى.. لماذا؟

(2) بداية تشير أستاذتنا ليلى تكلا فى كتابها المرجعى: «أصول الإدارة العامة» (1995) يبدو أن الإنشاءات التى أوجدها محمد على لم تكن صادرة عن رغبة فى تحسين أحوال الشعب بقدر ما كانت وسيلته فى الوصول إلى غايته. ومن ثم كان بقاؤها محدودا بمدى إسهامها فى دعم سلطانه وجاهه، لا بمدى نفعها للمواطنين».. ففى واقع الحال، لم تمنع التشكيلات الحديثة التى تم استحداثها من أن تحمل نفس أمراض «الجهاز الإدارى التاريخى المصرى». ومن أبرزها ما يلى: أولا: المركزية الشديدة، وثانيا: الهرمية المتعسفة، وثالثا: التحايل على اللوائح الصارمة، ورابعا: التمييز بين الأجانب والمصريين من موظفى الجهاز الإدارى، وخامسا: التفرغ لخدمة الحاكم لا المواطنين. وسادسا: تحول الجهاز الإدارى (البيروقراطى) إلى كيان مغلق يسلك سلوكا أقرب إلى القوة الاجتماعية التى لها مصالحها ومن ثم تدافع عنها تارة بالتعطيل الإدارى، وتارة بالتحالف مع شبكات المصالح المختلفة وتارة بأن تكون خادمة لطبقة بعينها. (لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتابنا: الشفرة السرية للبيروقراطية المصريةـ قيد الطبع)...

(3) حاول محمد على مرة أخرى تطوير الجهاز الإدارى ولكنه فى هذه المرة استورد النموذج الغربى. ولم يدرك بوعيه الفطرى الذى كان قادرا على أن يناور الباب العالى والقوى الدوليةــ آنذاكــ أن هناك علاقة شرطية بين المشروع التنموى/ الاستقلالى/ التحديثى وبين الهيكلية الإدارية التى تعبر عن هذا المشروع. وهو ما ميز محاولته الأولى إلى حد ما. وكان الأحرى به تقييم أسباب فشل المحاولة الإدارية المستقلة الأولى وتطويرها لا الاستسهال باستيراد نموذجا إداريا هوــ فى الأصل ـ تعبير عن بيئته ومدى تطورها.. فالنموذج الإدارى ليس تقنية، شأنها شأن السيارة وأى جهاز، يمكن استيراده ونقله من بيئة إلى بيئة للتشغيل الفورى.

(4) وظنى أن هناك من لم يزل يتعامل مع الإدارة كونها «تقنية» قابلة للتشغيل فى أى سياق. فبمجرد استخدام الاسم الجديد الذى تستخدمه الدول التى حققت قدرا من التقدم ألا وهو: «الخدمة المدنية» مع بعض التدريبات المهارية النمطية، إنما يعنى أننا سوف نحقق تطورا إداريا.. التطور الإدارى كى يكون بالفعل «خدمة مدنية» للمواطنين يحتاج إلى ثقافة: لا هرمية، ولا مركزية، وناقدة، ومتطورة «عملياتيا»، والأهم هو تحرير الجهاز الإدارى من أن يكون قوة اجتماعية وطرفا فى شبكة المصالح.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern