انشغلت الإنسانية: شعوبا ودولا، بفكرة التقدم. وزاد الانشغال «بالتقدم» مع الإبداعات المادية والثقافية التى حققها الإنسان فى نضاله مع الطبيعة، وقوى وبنى الاستبداد المختلفة: الاقتصادية، والسياسية، والدينية... إلخ. فلقد حررت هذه الإبداعات الإنسانية من الأساطير الثقافية التى كانت تروج أن الإنسان يدور فى حلقة خبيثة وأن مآله هو الموت. ذلك لأن الحياة الأرضية ما هى إلا محطة عابرة. وعليه لا توجد ضرورة من النضال ضد الظلم، ولا الكفاح من أجل تحسين الأوضاع والأحوال المعيشية والحياتية، ولا إطلاق العنان للعقل من أجل الابتكار المادى والثقافى.
(2)
إلا أن الإصلاح والتنوير والأخذ بالعلم وتطوير البنية المادية للإنتاج، أو ما يمكن أن نطلق عليه رباعية «التقدم»؛ قد مكنت كثيرا من دول وشعوب البشرية من التغير تغيرات جذرية وأن تتحول من حالة أدنى إلى حالة أفضل. ومن ثم الانطلاق نحو المستقبل. ومع دخولنا إلى أزمنة الثورات الرقمية، والبيولوجية، والتقنية، أتيح لكثير من الدول وشعوبها استثمار هذه الثورات لإحداث «طفرات» فى أوضاعها. أو قفزات نوعية فى أوضاعها. وفى بعض الأحيان «تحورات»، ناجحة، Metamorphosis (عملية شائعة فى مجال البيولوجية والوراثة حيث يحدث تغير فى طبيعة الكائن كليا) أو تغيرات كيفية فى طبيعتها. بالطبع هناك «تحورات» «مسخ» مثل التى عبر عنها الأديب التشيكى فرانتس كافكا (1883 ـ 1924) فى عمله الأشهر «التحول». ولكننا نقصد «التحورات» المدروسة الواعية العمدية التى تتم عن قصد من أجل القفز على الواقع المرفوض وبلوغ الأفضل.
(3)
راودتنى هذه الأفكار عند متابعتى للتظاهرة الكونية «لكأس العالم» التى انطلقت منذ أكثر من 10 أيام... والتى باتت أكثر بكثير من مجرد تظاهرة كروية... فلقد باتت هذه الاحتفالية بعناصرها المتنوعة مشهدا مركبا تعبر فيه الفرق الكروية عن مدى تقدم دولها بدرجة أو أخرى. وأنا لا أقصد هنا، ولا أقف عند النتائج المباشرة بقدر ما توقفت عند الحالة الكلية لكل فريق من حيث: أولا: التحضير العلمى لكأس العالم، ثانيا: التخطيط الكروى فى كل بلد، ثالثا: نسبة ممارسى الكرة على المستوى القاعدى فى كل دولة، رابعا: القدرة على استيعاب جديد الـKnow How فى مجال فنيات كرة القدم من خطط وتكتيكات، خامسا: اقتصاديات اللعبة، سادسا: الاستثمارات المؤسسية لا استثمارات شبكات المصالح المغلقة، سابعا: أساليب الإدارة الرياضية/ الكروية بمعاييرها الحداثية... إلخ.
(4)
فى هذا السياق، يمكن رصد ثلاث مجموعات من الفرق/ الدول... أولها: مجموعة الفرق التى شهد لعبها «تحورات» كيفية تعكس تقدما مركبا قفز بها درجات إلى الأمام، «تناطح» به الكبار. ثانيها: مجموعة الفرق التى اتسم لعبها «بتحولات» نوعية أو تغيرات ملموسة دفعت بها إلى التقدم إلى الأمام للمنافسة بجدية. ثالثها: مجموعة الفرق التى لم تأخذ من جديد كرة القدم إلا الشكل دون المضمون. تتبع كل ما يقوم به: «المتقدمون: المتحورون، والمتحولون» من تنظيم مباريات ودية تدريبة، ومعسكرات إعداد، وإعداد زى رسمى للبعثة، تستيف المسابقات المحلية، ولكن من دون مضمون تجديدى مؤسسى يسعى للتقدم.
(5)
أربعون عاما تفصل بين بداية متابعتنا لكأس العالم منذ أن بدأ نقلها تليفزيونيا عام 1978 أيام الموهوب الرائد كابتن لطيف... حيث مياه كثيرة جرت: سياسية محلية وإقليمية وكونية، واقتصادية، وثقافية، وتكنولوجية... ولكن أسباب الإخفاق يتم اجترارها... ما يثير سؤالا مشروعا كبيرا قديما متجددا:
لماذا يتقدم البعض، ليس فقط «بالتحول التدريجى» بل «بالتحور المطرد»... ويتعثر البعض؟!