(1) فى مارس القادم، أى بعد أقل من عام، سوف تحل الذكرى المئوية لانطلاق ثورة 1919.. وأظن من المشروع أن نتساءل هل هناك أى تحضيرات من الاحتفال بهذا الحدث التاريخى؟...أم سيمر الحدث مرور الكرام، مثلما مرت مئوية جمال عبد الناصر فى يناير الماضى، إذا ما استثنينا بعض النشاطات المتناثرة التى قام بها بعض المُخلصين من أجل إحياء ذكرى «ناصر»...والكثير من المئويات التى مرت بمصر خلال العقد الماضى.
(2) قد يقول قائل، هو إحنا فى إيه ولا فى إيه؟...ناظرا لهذه النوعية من الاحتفاليات بنوع من الترف الذى يمكن أن يؤجل، أو لا يُعد من الأولويات، أو لحين أن تتحسن الأحوال، أو كل ذلك معا...ما يعنى «تجميد» «الذاكرة الوطنية» أو «إلغاءها» عمليا.
(3) إن «المئويات، ليست فرصة «للتذكر»، فقط، وإنما« للتفكر»، ومن ثم «التدبر» أيضا».
(4) فالتذكر؛ يعنى المراجعة، وإعادة طرح القضايا فى ضوء ما استجد من معلومات وشهادات تاريخية، وأبحاث، ونظريات علمية تطرح مناقشة التاريخ من مناظير متعددة...أما «التفكر»؛ فيعنى إعادة النظر فيما هو شائع، وإعادة مناقشة ما هو مسكوت عنه، وتجديد البحث فى الملفات المغلقة، وتقييم التجارب التاريخية المتنوعة بحرية...ويعنى التدبر؛ هو رسم صورة المستقبل فى ضوء التاريخ ودروسه المستفادة...لذا لم يبالغ القائل بأن التاريخ هو القاعدة التى ينطلق منها تقدم المجتمعات.
(5) إن ما كتبناه فى الأسابيع الماضية حول احتفاليات أوروبا بشكل عام برموزها مثل: ماركس، ومارتن لوثر. وبأحداثها الهامة مثل: مئوية الحرب العالمية الأولى، خمسينية ثورة الطلبة فى 1968. لم تكن احتفالات نمطية، أو «سد خانة»، أو سطحية. وإنما فعاليات حية تحمل الافتخار دون تقديس، والامتنان دون تمييز، لكل من ساهم فى بناء تقدم الأوطان فى شتى المجالات. كذلك فتح المجال أمام إعادة اكتشاف الأحداث التاريخية مجددا وما نتجت عنها من حقائق ترسخت فى الواقع وساهمت فى تشكيل قرارات واختيارات الدول التى كانت طرفا فى هذه الأحداث.
(6) وفى المحصلة؛ تتحقق ثلاثة أهداف قومية عليا، كما أشرنا مرة، هى: إدراك من نحن؛ التقدم دون تعثر؛ بلورة ذاكرة موحدة بين المواطنين على اختلافهم؛...فى هذا السياق، يأتى سؤالنا: ماذا أعددنا لمئوية ثورة 1919؟.
(7) ثورة 1919 التى تمثل ميلاد الوعى والممارسة بكل من: «الاستقلال الوطنى»، و«مرجعية حكم الدستور»، و«المواطنة»، و«رفض مفهومى الأقلية والطائفة»، و«مواجهة الاستبدادين السياسى والدينى»، و«الحريات المدنية والسياسية»، و«تأسيس المدرسة القومية» فى كل المجالات: الموسيقى، والفن، والأدب، والصحافة، والفن التشكيلى، والعمارة، والعلوم التطبيقية، وعمل اجتماعى، وفقه معاصر مصرى، ورياضة، و«تبلور الشخصية الوطنية والحضارية التعددية»،...،إلخ...وميلاد بناة المواطنة المصرية بمعناها الواسع. وانتظام الجسم الاجتماعى المصرى الحديث بطبقاته وقواه الاجتماعية. وتكون الكيانات الحديثة الحكومية والأهلية والنقابية والطلابية على قاعدتى المؤسسية والمدنية. ما ساهم فى إحداث نقلة نوعية فى مصر الحديثة بدرجة أو أخرى.
(8) ويظل السؤال يُلح علىّ، مرة أخرى: هل أعددنا شيئا لثورة 1919؟...خاصة أنه لم يعد يفصلنا إلا أقل من عشرة أشهر عن هذا الحدث التاريخى.
(9) وأخيرا، نؤكد على أن دعوتنا للاحتفال بالتاريخ: رموزه، وأحداثه، ليست «نوستالجيا» أو حنينا إلى الماضى، بقدر ما هى جعل دروس التاريخ حية فى ذاكرتنا ووجداننا. نُراكم أو نبنى على الإيجابى منها. ونستبعد مآسيها ونكباتها...وإنما هى دعوة «لتجديد الروح، والأخذ بالعبرة، والتسلح بالثقة لمواجهة الحاضر والمستقبل».