مدارس الأحد القبطية من الحركة إلى «المأسسة» فى الدولة الحديثة «٣-٣»

إذا كانت المرحلة الأولى من مسيرة حركة مدارس الأحد، والتى انطلقت فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اتسمت بالمقاومة للإرساليات التبشيرية لمنع خطرها الذى واكب هجمة غربية عامة على مصر ومؤسساتها، فى إطار تنافس معقد عليها. والمرحلة الثانية كانت إحيائية بكل ما كانت تعنيه الكلمة من مهام: «انتشارية»، ومؤسسية، ومنهجية، وبشرية، و«معرفية» وذلك على مدى أكثر من ستين عاما، تقريبا، منذ الإقرار الرسمى لها فى 1898، والتنظيمى والهيكلى لها فى 1918 تأسيسها وحتى بلوغها المرحلة الرعوية فى 1961.

فإننا يمكن أن نصف المرحلة التى تبدأ من الستينيات المتأخرة ومطلع السبعينيات وحتى 25 يناير 2011. بأنها مرحلة حاضنة للأطفال، والشباب. فلقد بدأت مصر تتعرض لأمرين جديدين عليها هما: الأول: السجالات العقدية. والثانى: ما أطلقت عليه «التوترات الدينية»؛ (لا أفضل استخدام تعبير الفتنة الطائفية، لأن مصر ليس لديها ما يعرف بالطوائف، كما أنه من الناحية القانونية تم إلغاء نظام الطوائف الذى عرفناه وقت الدولة العثمانية فى عام 1890. كما أن تعبير توتر دينى يعبر بشكل مباشر عن طبيعة الحدث الإشكالى بين المصريين من مسلمين ومسيحيين).

ففى الستينيات المبكرة نشطت كثيرا مجموعات: شهود يهوه، والمورمون، والبهائية... إلخ. وقد قدمت نفسها باعتبارها جماعات مسيحية بالنسبة لشهود يهوه والمورمون. ما أثار الكثير من الجدل فى الأوساط المسيحية. ومن ثم محاولة تقديم الإيمان المسيحى الحقيقى. وقد عبر عن هذه المرحلة نيافة الأنبا غريغوريوس (اُختير أسقفا للبحث العلمى والدراسات اللاهوتية والثقافة القبطية فى 1967) بمقال له فى دورية الكرازة الشهرية ــ آنذاك ــ التى كان يديرها نيافة الأنبا شنودة (الذى كان فى ذلك الوقت يشغل موقع أسقف التعليم فى الكنيسة القبطية). ما يعنى أنه كان هناك موقفا كنسى رسمى جماعيا تجاه هذه المجموعات الوافدة وأفكارها.

جاء تعبير الأنبا غريغوريوس من خلال نص حول: دور مدارس الأحد كإسعاف أوحد. وأن مبادئها هى مبادئ الكنيسة التى هى أرثوذكسية. وانطلاقا من هذه الفكرة أسس لمهمة تثبيت المؤمنين من أطفال وشباب فى العقيدة الأرثوذكسية، وحذر من الفصل بين العقيدة والحياة.

لم تمضِ سنوات قليلة حتى بدأت أحداث التوتر الدينى. وتحديدا فى نوفمبر 1970؛ تاريخ أول توتر حدث حول أرض خصصت لمدافن المسيحيين فى مركز أخميم بمحافظة سوهاج (كنا أول من أشرنا لهذه الواقعة فى أكثر من مبحث وأنها سبقت هذه الواقعة حادثة الخانكة الشهيرة بسنتين. الخانكة التى دفعت البرلمان المصرى أن يشكل لجنة تقصى الحقائق الذى أصدر تقرير العطيفى الشهير. والتواريخ هنا هامة للغاية فى ابحث التاريخى). فبعد أخميم جرت أحداثا كثيرة إلى أن وصلنا إلى محطة «الخانكة» وتوالت الأحداث بشكل غير مسبوق فى مصر الحديثة والمعاصرة (وكنا قد أشرنا فى بحث سابق إلى أن مصر لم تعرف إلا واقعتى توتر دينى على مدى خمسين عاما فى الفترة من 1919 إلى 1969، الأولى قبل 1952 والثانى بعد 1952).

فرضت الأحداث، كذلك صعود ظاهرة التدين فى طبعة لم تعرفها الخبرة المصرية تحت مظلة خطاب يعيد النظر فى الوضع القانونى للمصريين من المسيحيين. أن تتجه حركة التعليم فى الكنيسة القبطية إلى «احتضان» الأطفال والشباب وحمايتهم من تداعيات التوتر الدينى الذى اجتاح البلاد منذ مطلع السبعينيات واستمر لعقود، أخذا فى الاعتبار أن تعليم الدين بشكل عام، والمسيحى بشكل خاص لم يكن بالمستوى المطلوب وهى إشكالية مزمنة منذ مطلع القرين العشرين. ما زاد من أهمية مدارس الأحد «كمصدر تعليمى وحيد» ــ فى حقيقة الأمرـ للأطفال والشباب من جهة. كذلك «كحاضن» لهم فى وقت الأزمات والتوترات.

فى هذا الإطار «المُربك»، حاول البابا شنودة الثالث أن يؤمن التعليم الكنسى من موجات العنف المتلاحقة بتحييد الآلية التعليمية الأهم من أى هزات. وربما نقول إنه اهتم بمدارس التربية الكنسية (مدارس الأحد) أكثر من أى آلية تعليمية أخرى.. وعليه أصدر لائحة جديدة للتربية الكنسية فى 1977، اتسمت بالطابع التنظيمى الصارم فى موادها الخمسين التى كانت بسيطة ومباشرة وإجرائية. لم تكن الظروف تحتمل رفاهية كتابة أى نصوص ذات طابع مفهومى أو فكرى، كما كان يحدث فى السابق. وربما يكون أهم ما ورد فيها ما نصت عليه المادة الثالثة بوضوح وحسم بأن: «الخدمة (خدمة مدارس الأحد) لا دخل لها إطلاقا بالأمور السياسية أو المشاكل العامة أو المحلية فى الكنيسة، حتى لا تتعطل الخدمة الروحية بسبب التدخل فى نزاعات أو انقسامات». بالإضافة إلى التأكيد الحاسم على تبعيتها المؤسسية للقيادة الكنسية. وإن ظلت مدارس الأحد «تحتفظ بحيويتها المدنية على المستوى القاعدى. ومرونة أن تبتكر الكنائس مناهجها. خاصة أن الكنيسة مع توالى الأحداث لم تستطع أن تنتج منهجا يواكب المتغيرات، مثلما كان يحدث فى النصف الأول من القرن العشرين إبان مرحلة التحرك القاعدى.

صحيح أن البابا شنودة قد أعاد تشكيل اللجنة العليا للتربية الكنسية فى مطلع السبعينيات، إلا أنها لم تنجز شيئا. كذلك شكل لجنة لتسجيل تاريخ مدارس الأحد عام 1981 برئاسة الدكتور هنرى الخولى (أحد الذين تتلمذوا على الأستاذ حبيب جرجس مباشرة وهو من الجيل الذى يسبق جيل الأنبا شنودة والأنبا صموئيل والأنبا غريغوريوس ووليم سليمان قلادة وسليمان نسيم والأنبا أثناسيوس)، إلا أنها لم تعمل مع تداعى الأحداث السياسية. وإن عوضت ذلك بتنظيم مجموعة من المؤتمرات السنوية المتميزة التحضير والتى كان كل منها يناقش تيمة معينة من زوايا متنوعة بطريقة منهجية وذلك فى الفترة من 1972 إلى 1979.

نشير إلى أنه كانت هناك محاولة فردية من نيافة الأنبا بيمن، أسقف ملوى الذى كان متخصصا فى التربية واللاهوت، إلا أنها لم تستمر فقد كان ممن اعتقلوا فى تجريدة سبتمبر 1981. وكذلك محاولة مؤسسية أنجزتها أسقفية الشباب فى 1985. بالإضافة إلى محاولة أكثر شمولا أنجزتها فى منتصف العقد الأول من القرن الجديد.

وفى 1992، أعاد قداسة البابا شنودة تشكيل اللجنة العليا للتربية الكنسية برئاسته وعضوية 10 أساقفة و5 كهنة و6 مدنيين حيث أنجزت منهجا جديدا للصف الثالث الإعدادى ولسنوات المرحلة الثانوية الثلاث. وفى عام 1993 رعى البابا شنودة مؤتمرا للاحتفال بمئوية الكلية الإكليركية لمدة أسبوع تشرفت أن ألقيت فيه محاضرة عن تاريخ مدارس الأحد بدعوة كريمة من قداسته.

ومنذ حراك يناير 2011 جرت مياه كثيرة. فلقد تبين أن كثيرا من الاتهامات التى كانت ترد فى تحليلات منحازة أو موظفة سياسيا أو تقارير مغرضة حول مدارس الأحد لم تكن صحيحة. فلا ظروف تأسيسها أو تطورها والسياقات التاريخية والسياسية التى مرت بها مصر تسمح بما هو أكثر من أن تؤدى دورها التعليمى بكفاءة. ويكفى أن نشير إلى أنه لما قرر شباب الأقباط الانخراط فى حراك يناير لم تستطع الكنيسة أو ذراعها التعليمية أن تمنعهم. فهم مواطنون من حقهم الانشغال بهموم وطنهم مثلما هم مسيحيون عليهم أن ينشغلوا بشؤون كنيستهم.. لا تعارض.

تولى قداسة البابا تواضروس الثانى مهمته كبابا للكنيسة القبطية فى 2012 فى سياق تحولات جذرية تشهدها مصر ولاتزال، وعليه قام بمبادرات مهمة منها: اعتبار الأستاذ حبيب جرجس من قديسى الكنيسة على أن يذكر اسمه مع قديسى الكنيسة الذين تذكر أسماؤهم فى القداس الإلهى يوميا. وذلك تقديرا لدوره التاريخى التأسيسى. كما حرص على إصدار لائحة جديدة تنظم عمل التربية الكنسية فى مصر والمهجر. ووضع مناهج، من خلال لجنة متخصصة، وفق ما هو متعارف عليه علميا. والتأكيد على البعد الوطنى لمسيحيى مصر بصفتهم مواطنين. بالإضافة إلى الاهتمام بتكوين وتدريب الخدام المنوط بهم التعليم، من خلال الدورات التدريبية المتخصصة ومنهج إعداد يواكب العصر.

(6) مدارس الأحد والمستقبل

وبعد.. حاولنا فى عجالة أن نلخص قصة مدارس الأحد منذ انطلاقتها الحديثة وإلى الآن.. فتأسيسها الثانى حدث فى ظل محاولة بناء الدولة الحديثة التى كان من ضمن خصومها الغرب ــ بدرجة أو أخرى ولأسباب كثيرة ــ ولم تكن الكنيسة القبطية كأقدم كيان ممتد ومستمر عبر الزمان ــ كما كان يقول دوما أستاذنا وليم سليمان قلادة أحد الرموز القيادية لمدارس الأحد، وتولى رئاسة تحرير مجلتها من 1954 إلى 1959 كما كان فى نفس الوقت أحد أهم المفكرين المصريين الذين تناولوا قضية المواطنة منذ وقت مبكر ـ أقول لم تكن بعيدة عن هذه الخصومة.. ولعل مؤتمر مئويتها ينجح فى إلقاء الضوء على كثير ما هو غامض وغير معروف، كما يصحح ما هو ملتبس.. والأهم أن يقدم روشتة تجديد شامل تواكب التحولات المطردة فى مصر والعالم، يصب مع ما تحاوله مؤسسات مصرية أخرى بما يعود بالفائدة علينا جميعا.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern