مدارس الأحد القبطية من الحركة إلى «المأسسة» فى الدولة الحديثة «٢-٣»

(4) مدارس الأحد: الإحياء التعليمى فى الكنيسة القبطية 

ويمكن رصدها فى ثلاث مراحل كما يلى:

- مرحلة الإصلاح من أعلى (1854 ـ 1861).

- مرحلة التحرك القاعدى للحركة التعليمية الدينية و«مأسستها» (1861 ــ 1961).

- المرحلة الرعوية (1962).

أولًا: مرحلة الإصلاح من أعلى (1854 ــ 1861):

كان بطل هذه المرحلة البابا كيرلس الرابع (رقم 110 فى سلسلة باباوات الكنيسة المصرية)، حيث أدرك مدى الاحتياج الموضوعى إلى مشاركة الكنيسة فى بناء الدولة الحديثة. وشجعه فى ذلك وجهاء الأقباط (الأراخنة) الذين أصبحوا ملاكا للأرض الزراعية، بتنويعاتهم المختلفة. فلقد أصبحوا جزءا من القوى الاجتماعية المصرية البازغة، ويهمهم أن تتقدم الدولة، ومن ضمنها الكنيسة بطبيعة الحال.

وعليه وفى مدة قصيرة استطاع البابا كيرلس الرابع أن يطلق حركة تغيير داخلية فى الكنيسة، هى الأولى فى تاريخها الحديث. كان التعليم هو جوهر هذه الحركة، بنوعيه: الكنسى والعام. ففى مجال التعليم الكنسى انطلق المدنيون يعلمون الأطفال، ويحمونهم من التعاليم الوافدة. وفى المجال التعليمى العام أسس كيرلس الرابع مدارس قبطية أهلية (وطنية) لخدمة عموم المصريين بنين وبنات، ومن هذه المدارس نذكر: مدرسة الأقباط للبنين بالدرب الواسع. ومدرسة البنات القبطية بكلوت بك. ومدرسة البنين بحارة السقايين. ومدرسة البنات بحارة السقايين بعابدين. ومدرسة المنصورة للبنين.

ثانيا: مرحلة التحرك القاعدى الدينى و«مأسسته» (1861 ــ 1961):

عقب رحيل البابا كيرلس الرابع فى 1861، تولى البابوية البابا ديمتريوس الثانى الذى لم يمكث سوى تسعة أعوام كانت لم تكن يسيرة. وفى 1870 تولى الأنبا مرقس مطران البحيرة ــ وقتئذ ــ منصب القائم مقام البطريركى لمدة خمسة أعوام. أدرك خلالها أن هناك مهامَّ جديدة على الكنيسة أن تضطلع بها، ولكن من خلال إعادة مأسستها بما يتناسب واحتياجات العصر.

وعليه، قام بدعوة بعض من وجهاء القبط من ملاك الأرض، وكبار الموظفين أو الأفندية كى يشاركوه بحسب ما جاء فى نص الدعوة: «إدارة شؤون الكنيسة، وانتخب منهم مجموعة توفرت فيهم شروط اللياقة والذمة، وصاروا يباشرون أعمال إدارة شؤون الأقباط مع نيافته بكل محبة واحترام».

وفى عام 1873 طلبت هذه القوة المدنية من الأنبا مرقس تشكيل هيئة رسمية منهم بصفة مجلس إدارة توافق الحكومة ــ رسميا على إقامتها. فوافق الأنبا مرقس مبدئيا. وبالفعل اجتمعت جماعة من الأقباط هم يعقوب بك نخلة رفيلة، وبرسوم بك جريس رفيلة، وجندى بك يوسف القصبجى، وعزوز أفندى منقريوس البياضى، وميخائيل أفندى الحبشى. وتعاهدوا بأن يقوموا مطالبين بحقوق الفقراء. وكان ذلك ليلة عيد الميلاد سنة 1874. ويعد هذا الكيان أول تشكيل له طبيعة مدنية سبق تاريخيا ما يعرف بالمجلس الملى الذى تشكل رسميا فى 1875 بعد اختيار البابا كيرلس الخامس.

ولا يخفى تأثير تجربة مجلس شورى النواب الذى تأسس فى 1866 بدعوة من الخديوِ إسماعيل على تجربة المجلس الإدارى الذى تشكل لمعاونة الأنبا مرقس. الاثنان ضما عناصر مدنية اجتماعية بازغة من: ملاك الريف والأفندية الموظفين.

وخلال أيام تم إعداد لائحة خاصة بهذا الكيان الادارى المُستجد. تضمنت: «تنظيم المجلس، وحدود اختصاصه. وذلك فى واحد وعشرين بندا صدق عليها الأنبا مرقس وأعقب ذلك اختيار أعضاء المجلس الذى تكون من 24 عضوا (12 عضوا أساسيا و12 عضوا نائبا)، وانتخب بطرس أفندى غالى (وقتها) وكيلا للمجلس».

ما يهمنا فى هذا المقام هو أن هذا المجلس المدنى الأول قد شكل ثلاث لجان (قومسيونات بتعبير اللائحة وكما ورد فى محضر اجتماع المجلس الأول) وذلك كما يلى: أولا: لجنة الأوقاف. ثانيا: لجنة المدرسة والمطبعة. ثالثا: لجنة الإخوة الفقراء. حيث عنيت لجنة المدارس بالتعليم فى المدارس المملوكة للكنيسة.

فى نفس الوقت، انطلق الشباب على المستوى القاعدى يستثمرون تكون الجمعيات المدنية فى المجال العام المدنى فى تأسيس فصول لتعليم الأطفال أصول الإيمان المسيحى الأرثوذكسى. وانتشرت هذه الجهود فى القاهرة والأقاليم. ما دفع المجمع المقدس عام 1898 وقت البابا كيرلس الخامس(1875 ـ 1927) أن يقرر: «وجوب تعليم الدين المسيحى للأطفال»..«بهدف التعمق فى فهم أصول الإيمان». وكان هذا القرار المجمعى بمثابة صبغ الشرعية الكنسية على التحرك القاعدى. حيث انطلق الأستاذ حبيب جرجس بكل طاقته يستثمر ــ متطوعا ــ فى الانتشار قاعديا لتعليم الأطفال. وجعل من جمعية أسسها اسمها: «جامعة المحبة»، مركزا لهذا النشاط. وكان يقوم بإعداد الدروس الدينية. كما عمل على تأسيس فروع لهذه الجمعية انضم لها ما يقرب 500 عضو ليعاونوا فى تدريس الدروس الدينية للأطفال.

وانكب الأستاذ حبيب جرجس على إعداد مناهج تعليمية تناسب المراحل العمرية المتعاقبة. فأعد سلسلة من ثلاثة كتب تناسب المرحلة الابتدائية تحت عنوان: «خلاصة الأصول الايمانية فى معتقدات الكنيسة القبطية»، بطريقة «الكاتشيزم» أو بطريقة «السؤال والجواب التاريخية». وقد طبعت من هذه السلسلة أكثر من عشرة طبعات (الطبعة العاشرة بتاريخ 1936).

وعندما تقرر تدريس الدين المسيحى فى المدارس، وذلك بفضل جهود مرقس باشا سميكة (مؤسس المتحف القبطى)، أعد الأستاذ حبيب جرجس سلسلة أخرى بعنوان: «المبادئ المسيحية الأرثوذكسية للمدارس الابتدائية والثانوية. مخصصا لكل سنة دراسية كتابها.

ولم يمض وقت طويل حتى استجابت المؤسسة الكنسية للجهود الشعبية وقرر البابا كيرلس الخامس تشكيل لجنة لإدارة شؤون مدارس الأحد وذلك فى عام 1918. وتكونت اللجنة من 11 عضوا: ستة أعضاء من المدنيين الأقباط، وسيدتان، وثلاثة كهنة. أحد الكهنة شغل منصب الرئيس. وشغل الأستاذ حبيب جرجس موقع مدير التعليم. وتضمن القرار شعار اللجنة وسبعة مبادئ. وأنجزت هذه اللجنة عملا كبيرا من حيث التنظيم والمناهج والانتشار. كما أنجز الأستاذ حبيب جرجس مجموعة كتب أخرى بعنوان: (الكنز الأنفس فى ملخص الكتاب والتاريخ الأقدس) وذلك فى أربعة أجزاء. وقد كلفت اللجنة فنان ألمانى عالمى لوضع صور تعبر عن الدروس المختلفة المستوحاة من الكتاب المقدس لتوضع فى هذه السلسلة من جهة. وللتوزيع منفصلة على الحاضرين.

ويهمنى فى هذا الإطار الإشارة إلى أن مبادئ مدارس الأحد ومناهجها كانت ذات توجهات روحية محضة وبسيطة. ولم يكن لديها أى تماس مع السياسة بحسب ما جاء فى بعض التحليلات التى ظهرت مطلع الثمانينيات فى محاولة لإثبات أن هناك مقابلا موضوعيا للإسلام السياسى.

والمتتبع مجموعة الوثائق التى ظهرت فى فترات متعاقبة منذ الإعلان الأول لها فى 1918. سوف يلحظ تطور الصياغات ونضج الرؤية حول دور مدارس الأحد تجاه الكنيسة والوطن والالتزام أكثر فأكثر، وبصرامة، على التعليم الكنسى العقدى.

وبقدر ما كان المجال العام منفتحا بقدر ما كان تحرك الأقباط، والعكس صحيح.

وفى هذا المقام نشير إلى الصياغة التى أعلنت فى 1946 والتى جاء فيها تحت عنوان الأغراض إلى: أولا: تعليم الأولاد حقائق الإيمان الأساسية. وثانيا: تلقينهم تاريخ كنيستهم وعقائدها وطقوسها. وثالثا: تعويدهم تقديس يوم الأحد. ورابعا: تدريبهم على الحياة المسيحية.. ليكونوا أعضاء نافعين لكنيستهم ووطنهم.. وسادسا: لا تتداخل مدارس الأحد فى الأمور الحزبية السياسية أو الطائفية.

وظنى ومن خلال مقابلات عديدة مع رموز حركة مدارس الأحد. كيف أن الكثيرين منهم خلال فترة التحرك القاعدى خاصة فى العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات كان لهم حضور مجتمعى وسياسى، بالإضافة إلى نشاطهم الكنسى دون تعارض. وأن أغلبهم كانوا من أبناء الطبقة الوسطى المدنية.

فى هذا السياق، بقيت مدارس الأحد ذات طابع حركى قاعدى. وقد اتسمت بما يلى: أولا: المنهجية الشديدة والمؤسسية الحديثة. وتشير التقارير الدورية السنوية التى كانت اللجنة تحرص على إصدارها مقدار الشفافية والعلمية التى التزمت بها هذه التقارير. ويبدو لى أن اللجنة قد استفادت من جديد الإدارة من خلال أعضائها الذين تعلموا فى الخارج أو ارتبطوا بالعمل فى هيئات تعمل تحت إدارة أجنبية. ثانيا: تعدد الفروع وخاصة مدينة القاهرة تعددا يتجاوز المعنى الكمى إلى النوعى. حيث كان لكل فرع شخصية مغايرة فى ظل وحدة الهدف، فكان هناك فرع معنى أكثر من الآخرين بالروحانية الأرثوذكسية التاريخية. وفرع آخر عنى بالتكوين العقلى واللاهوتى والثقافى. وفرع ثالث كان جل اهتمامه العمل الاجتماعى ونشر الخدمات الاجتماعية خاصة فى القرى. وفرع رابع ونظرا للتركيب الطبقى لأعضائه ركز على دراسة الكتاب المقدس وعلى المؤسسية وانتظامها.

إذن، تعددت الفروع فى ظل مجال عام مفتوح.. ومع تراجع الوفد التاريخى مع أزمة 1942 وقيام ثورة يوليو بعد عقد من الزمان أى فى 1952 بدأت خيارات الشباب المصرى فى الاختلاف بشكل عام والأقباط منهم بشكل خاص. حيث اتجه الكثيرون إلى الانخراط فى تنظيمات وكيانات خارج الأحزاب التقليدية أولا فى عقد الأربعينيات وحتى ثورة 1952، ثم مع تأميم المجال العام ببعديه السياسى والمدنى لجأ المصريون مسلمين ومسيحيين، إما إلى الالتحاق بالمشروع الناصرى خاصة أنه راعى البعدين الاقتصادى والاجتماعى لجميع المصريين. أو الاكتفاء بالدور المدنى الطبيعى، بالإضافة إلى الدور التطوعى الخدمى الداخلى فى الكنيسة. والنتيجة أن غابت ألوان الطيف السياسى لصالح الحضور المزدوج فى المجال السياسى لكل من: الانتلجنسيا والتكنوقراط، فى ظل حكم الحزب الواحد. ما سينعكس على حركة مدارس الأحد، حيث التأكيد على وحدة التوجه. وابتعادها عن السياسة كليا. وأخيرا وبحسم مصريتها.

عبر عما سبق الأستاذ الدكتور وهيب عطاالله (الأنبا غريغوريوس لاحقا)، الذى تولى مسؤولية مدارس الأحد بعد رحيل أستاذ الجيل حبيب جرجس فى 1951. فلقد عمل على إصدار نصين رفيعى المستوى فى عامى 1954، و1955 حول رسالتها، وشعارها ومبادئها، وسياستها، وبرنامجها، وعملها، وأغراضها، وفائدتها، لطمأنة النظام الجديد. خاصة مع حدوث مجموعة من الأحداث والوقائع النشاز أو غير المسبوقة تاريخيا مثل: ظهور جماعة الأمة القبطية واختطافها للبابا يوساب. ويبدو لى أن النصين هما انعكاس للمرحلة الجديدة، حيث استمرت فيه حركة مدارس الأحد ملتزمة بحيويتها القاعدية من جهة. وتمسكها بأنها تمثل التيار الرئيس للتعليم للكنيسة المصرية.

من هذين النصين نقتطع ما يلى:

مدارس الأحد تعمل لحساب الله والكنيسة والوطن

ومدارس الأحد، إذ تربى الفرد على أساس معرفة الله واتباع وصاياه حتى تتكامل شخصيته ويثمر فى المجتمع، فهى بذلك تعد المواطن الصالح وتساعده على أن يسهم بنصيبه لبناء مجتمع متماسك سليم، وليس لمدارس الأحد مبادئ خاصة غير مبادئ الكنيسة القبطية، وليس لها تعليم غير تعليم كنيستنا، ولا هدف غير الثقافة الروحية.

مدارس الأحد ليس لها سياسة مستورة، ولا أغراض ملتوية، وليست لها مطامع سياسية، ولا شهوة فى مناصب اجتماعية أو كنسية أو مالية.

وتعتمد فى تعليمها على تعاليم الكتاب المقدس، وتشجع على تطبيق مبادئه نحو الله ونحو نفسه ونحو الآخرين ونحو الدولة.

ومن الأغراض التى يسعون إليها هى المساهمة فى بناء مجتمع مصرى ناهض.

وليست مدارس الأحد هيئة منفصلة عن الكنيسة أو مستقلة عن كيانها، ولا ترضى حتى أن تتخذ لنفسها اسم جمعية أو جماعة أو هيئة ما. إن مدارس الأحد هى مدارس الكنيسة القبطية.

ثالثا: المرحلة الرعوية (1961):

ما إن تبوأ البابا كيرلس السادس موقع البابوية فى عام 1959 حتى قرر أن تصبح مدارس الأحد جزءا من البنية التراتبية للكنيسة القبطية. فأسس مكتبا بالمقر البابوى لمعاونة اللجنة العليا للتربية الكنسية. ويشار هنا إلى بدء الأخذ باسم مدارس التربية الكنسية بدلا من مدارس الأحد، باعتباره اسما غربيا مستوردا. كذلك استبدال كلمة العليا بالعامة فى توصيف اللجنة. وأخيرا أعاد تشكيل اللجنة. ولم تمر شهور حتى اختار البابا كيرلس السادس الأنبا شنودة ليكون أسقفا للتعليم بالكنيسة القبطية، وذلك فى 1962. ومنذ هذا التاريخ وإلى يومنا هذا أصبحت مدارس الأحد جزءا تابعا لأسقفية التعليم، وتحت رعاية الكنيسة.

وهكذا أصبح للتحركات القاعدية التى بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر وجودها المؤسسى فى الهيكلية الكنسية، أو الرعوى، بحسب التعبير الكنسى، حيث الأسقف هو الراعى. ويشار إلى ما قاله البابا كيرلس السادس عند تأسيسه لهذه الأسقفية: ولما انتشرت مدارس الأحد فى جميع الكنائس.. ولكن لكى تستمر فى نجاحها لا بد لها بعد فترة الانتشار من فترة التنظيم والاستقرار. وهذه عملية تحتاج إلى: وضع الأسس والترتيبات التى تضمن حسن قيام العمل، على أساس نظام مستقر وليس أساس الأشخاص فقط، إنه يوم مجيد فى حياة الكنيسة أن تشعر بمسؤوليتها كاملة، نحو رسالة من دعاماتها الأساسية، فتصبح رسالة التربية الدينية مسؤولية، وإدارة فعلية من إدارات الكنيسة.

إلا أن هذا الأمر لم يغير من طبيعة الكيان نفسه من أنه يقوم على تطوع المدنيين من الشباب للقيام بمهمة التعليم. وبالرغم من تبنى أسقفية التعليم لمنهج موحد للتربية الكنسية تم استحداثه فى مطلع الستينيات للمرحلة الابتدائية، وهو ما عرف بمنهج بنى سويف الذى وضع تحت إشراف الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern