«الرفض القاطع لتَعدٍ لا يطاق» على الهامشيين والمُهمشين...
(2)
تلخص هذه العبارة مفتاحا هاما لفهم انطلاق ثورة الشباب الفرنسى فى مايو 1968. والتى يحتفل العالم «بخمسينيتها» هذا العام. فلقد كانت ثورة ملهمة للعالم، وفارقة فى الوقت نفسه.. فما الجديد الذى جاءت به ثورة الشباب فى 1968؟
(3)
لم يكن الجديد هو التمرد الشبابى- فالتمرد سمة الشباب عبر العصورـ وإنما الجديد هو الإصرار على التعبير عن هذا التمرد بشكل مجتمعى: علنى ومنظم، من جهة. وممتد ليشمل كل الفئات المُهمشة، من جهة أخرى. وهم بحسب هربرت ماركيوز (1898 ـ 1979)، أحد أهم المنظرين للتحركات الشبابية العالمية فى الستينيات «الملونون، والأقليات، والفنانون، والنساء، والمفكرون، والعاطلون عن العمل، بالإضافة إلى الطلبة».. ويعود هذا الإصرار إلى أن جيل الحرب العالمية الثانية قد فشل فى تأمين حضور حقيقى وفاعل ومُشارك لجيل الشباب الذى وُلد عقب هذه الحرب. كما أخفقت مؤسسات وأحزاب جيل الكبار (أو إذا ما استعرنا وصف أحد الفلاسفة جيل أنصاف آلهة ما بعد الحرب) فى استيعابهم الذى كان يتم بصورة قسرية فى الأغلب. وتبين أن هناك عالما جديدا قيد التشكل لا يدركه بعد جيل الكبار. الذى لم يزل يفكر ويتحرك بمعايير وضوابط العالم القديم الآخذ فى الانهيار.. ما اعتبره جيل الشباب «تعديا تاريخيا» عليهم. ومن ثم وجب «الرفض». وأن «الردع» لن يفيد هذه المرة...أنه بحسب ما كتبنا مرة: «غروب زمن قديم وبزوغ زمن جديد»...
(4)
رفع الشباب شعار: «المنع ممنوع»...وطالبوا بحقهم أن «يحلموا بعالم مختلف»، يبنونه وفق رؤيتهم، وبأيديهم. ذلك أنه لن يتحقق «تجديد المجتمع» إلا بالحضور الفاعل والمتكافئ للجميع. ليس للطلبة والشباب، فقط، وإنما بالمهمشين على اختلافهم. لذا يجمع الكثير من المؤرخين ثورة 1968 قد منحت «الأمل للهامشيين والمُهمشين» فى أن يعبروا عن أنفسهم وإمكانية أن يكون لهم موقع تحت الشمس.. أو بلغة أخرى، أتيح «للصامتين أن ينطقوا» (راجع “Sixties: From Memories to History”).. وعليه كانت إيذانا «بميلاد المواطن»؛ أيا كان موقعه فى الجسم الاجتماعى للدولة الجديدة المرجوة.. وكانت دافعة للمُهمشين أن يتضامنوا وينتظموا فيما عُرف بالحركة المدنية المجتمعية. والأهم أن أفكارها وحيويتها كانت عابرة للقارات. وملهمة لكثير من دول العالم فى: الفلسفة والفكر والفن والحركة المجتمعية والسياسية. وهو ما دفع الفيلسوفة حنة أرندت(1906 ـ 1975) أن تقول: «يبدو لى أن أطفال القرن القادم سيدرسون أحداث عام 1968 مثلما درسنا نحن عام 1848(السنة الأوروبية الساخنة تاريخيا)». وفى هذا المقام، نشير إلى أن الحيوية الحركية التى تشهدها أوروبا- منذ الأزمة الاقتصادية التى وقعت فى 2008 وإلى الآن- من تحركات قاعدية تتجلى فيما يمكن أن نطلق عليه: أولا: حركات المواطنية الجديدة. وثانيا: الحركات الشعبوية المتجددة، تتم دراستها فى ضوء ديناميكيات حركة الطلبة فى 1968 والتى تشير كثير من الدراسات إلى أن تأثيرها لم يزل حاضرا بقوة. وقد شبهها واحد من الدارسين بأن تأثيرها أشبه بالمطر المُنهمر. وأنه لا يستطيع أحد أن يقاوم الأمطار أو يمنعها «طالما تجمعت الغيوم أو تكثفت الأسباب الدافعة بتساقطها.. ».
(5)
من أهم القيم التاريخية التى أضافتها ثورة الشباب 1968 «حق المهمشين فى إثارة التساؤلات»(راجع شهادة ميشيل روكار 1930 ـ 2016 أحد أهم السياسيين الفرنسيين عن حركة الطلبة فى 1968). وتعد قيمة أن يكتسب المهمشون حق إثارة التساؤلات من «شموليات» متعددة: دينية، وسياسية، وثقافية، وأكاديمية، واجتماعية، واقتصادية، أمرا غير مسبوق فى التاريخ البشرى.. وحول هذه الأسبقية يقول أحدهم: «كانت الثورة البرجوازية حقوقية، كما كانت الثورة البروليتارية اقتصادية.. أما ثورة الطلبة/ الشباب فى 1968 فكانت ثورة اجتماعية وثقافية تُمكن الإنسان من أن يصبح إنسانا ولا يكتفى باعتناق أيديولوجيا أبوية تحوله تابعا أو عقائديا صلبا وإقصائيا أو اثنيا لا يقبل المختلفين؛...لذا يحسب لثورة الطلبة فى 1968 تأكيدها على: حق الاختلاف، وضرورة الحوار، ورفض القمع وكل أشكال الشموليات، والتجديد المؤسسى، وعدم القبول بالكهانة فى جميع المجالات، وحق الجميع فى الاندماج المجتمعى،.. والتأسيس للمجتمع المفتوح الحر القادر على الخيال وتحويل الأحلام إلى واقع.. بمشاركة الجميع دون تمييز...
فى المحصلة تجددت أوروبا...
ولم تزل تستلهم 1968 متى احتاجت إلى تجديد كما هو حادث الآن...