«كثيرون يرحلون عنا بغير أن نمسك بهم. قلنا لهم كل شىء (هكذا نتصور عند الرحيل)؛ لم يبق شىء بيننا وبينهم، (هكذا نتخيل)؛ ووجوهنا صارت قاسية أثناء الوداع. لكننا لم نقل الشىء المهم، وإنما ادخرناه للضرورة»..
(2)
كلمات شعرية أبدعها «بريخت» (1898 ـ 1956)، قرأتها وظلت عالقة فى ذاكرتى كلما تذكرت أمى المواطنة المصرية ابنة الطبقة الوسطى المدينية فوزية نسيم بدروس (1930 ــ 1990). ومنذ رحيلها تولد لدى إحساس بأن «شيئا مهما» لم أستطع أن أقوله لها أثناء حياتها القصيرة. وكنت دائم التساؤل «لماذا لم نقل هذا الشىء المهم» عندما كنا معا وكانت معنا.. وهل هناك ما يمكن أن يقال بعد الرحيل؟!
(3)
نعم، يمكن قول الكثير. ذلك لأنها لم ترحل إلا بالجسد.. فما قدمته، كأم، كثير، باق «حى» فى كل ما يفعل المرء. أقصد مجموعة القيم التى تربينا عليها وتحكم توجهاتنا وتصرفاتنا. والأكثر والأهم هو ما نكتشفه من قيم كامنة تظهر وتتجسد فى أوقات فاصلة وحاسمة. ندرك عندئذ أن ما تركته الأم أكثر بكثير مما هو واضح وظاهر.. وربما هذا ما قصده «بريخت» من «ادخار ما كان يجب أن نقوله للضرورة».. وما الضرورة إلا «التعبير عن الامتنان» لقيمة ما حرصت على تقديمه أمى.
(4)
أمى؛ تعكس حياتها القصيرة تحولات الطبقة الوسطى المدينية الدرامية. فهى ابنة أحد الموظفين الكبار أو «الأفندية» بلغة زمن مطلع القرن العشرين. لم يكن يفرق فى تربيته بين أمى- الكبيرة- وبين أخويها. فالكل يجب أن يتعلم كما عليه أن يعمل.. التحقت أمى بالدفعة الأولى للمعهد العالى للفنون التطريزية، وتخرجت نهاية الأربعينيات وعملت فى وزارة ديوان عام وزارة المعارف- آنذاك- فى ظل حكومة وفدية. فضلت العمل الإدارى على التدريس فصارت مديرة لمكتب «أبلة» نظيرة نيقولا- التى كانت عائدة من البعثة فى إنجلترا- صاحبة كتاب أصول الطهى، الكتاب الأول والرائد فى هذا المجال. واستمرت أمى فى الخدمة ترتقى فى الفترة الناصرية.. ولفت نظرى أنها كانت تتحدث عن الزعيمين: «النحاس» و«ناصر» بكل التقدير. لم يكن اختلاف المرحلة السياسية مزعجا بالنسبة لها. ولما سألتها عندما بات المرء واعيا عن سر هذا التوافق حول الرجلين. فوجدتها تتجاوز حدة التقييم الحدى بينهما بالتأكيد على أن طبقتها لم تتأثر سلبا بالتغيير. فلقد تمكنت من الترقى والصعود المهنى بسهولة ويسر حتى وصلت إلى منصب مدير عام. ولم تلبث أن مرضت بشكل مفاجئ مطلع الثمانينيات قبل أن تبلغ الستين. وكأنها تعلن رفضها لتحولات مجتمعية بدأت تنال- بالأساسـ من زمنها، وجيلها، وطبقتها، وقيمها الحداثية والمدنية...
أو بحسب «بريخت» (مرة أخرى): «عشرون شتاءً تضافرت على (تقويضها)، آلامها كانت فظيعة، والموت شعر بالخجل منها». لقد جاء الموت قبل أن تبلغ الستين..
(5)
جاء فوجدها غير قادرة على مقاومة التحولات الحادة التى تحمل قيما تتناقض مع ما عاشته واختبرته.. جاء ومصر تعيد الحديث عن عمل المرأة.. وهى المرأة العاملة منذ نهاية الأربعينيات. جاء فى ظل مناخ يعلى من قيمة المصلحة الفردية، وهى عاشت عمرها تعلى من قيم الصالح العام والإيثار وخدمة الآخرين والتدبير قولا وفعلا.. جاء يحمل تدينا طقوسيا فارغا يهتم بالشكل أكثر من المضمون. وهى التى عاشت عمرها تعرف أن التدين فى القلب وتجسيده يكون بإشاعة الخير العام. جاء فى زمن يحرّم الفن والإبداع وهى التى عاشت عمرا من عشق الفن وتقدر مبدعيه. وقد كانت من المعجبات بفن نجيب الريحانى وأم كلثوم. وأذكر كيف كانت تتابع عرض فيلم غزل البنات فى دور العرض الصيفى كى تشاهده وكانت تأخذنى أنا وأخى لمشاهدة الفيلم معها. أدارت أسرتها بخلطة سحرية من الانضباط والديمقراطية. الالتزام دون سلطوية.. انضباط فى طريقة الأكل، والالتزام بالمواعيد، بتقاسم الأدوار والمهام فى إدارة شؤون المنزل،... إلخ. وكان يتم كل هذا دون أى جور على حرية التعبير أو التواصل بين أعضاء الأسرة الأربع.
(6)
وبعد، «أحبك وممتن لك»؛ هذا هو الشىء المهم الذى أود أن أبوح به.. وأذكرك كل مرة أشاهد فيها غزل البنات، وأستمع فيها لـ«فكرونى» أغنيتك المفضلة.. وأتذكر فيها مواقفك العائلية وتدخلاتك الناجزة.. وعملك وخدماتك وتفكيرك المتجدد.