شهدت الولايات المتحدة الأمريكية زخماً كبيراً من قبل الحركة الصهيونية بتجلييها: الدينى والسياسى، فى مطلع السبعينات من القرن الماضى. وهو الزخم الذى تلاقى مع الصعود المتنامى لما بات يُعرف بحركة: «اليمين المسيحى الجديد» New Christian Right، وهو الاسم المعتمد فى الأدبيات الأمريكية لهؤلاء المتشددين الأصوليين الإنجيليين الذين باتوا يمارسون السياسة وفق التفسيرات الكتابية والتوراتية خارج كنائسهم - التيار الرئيس للكنائس الإنجيلية- تحت مظلة تأسيس مؤسسات مدنية تمارس أدواراً دينية وسياسية ضاغطة على الإدارات السياسية المتعاقبة. وقد استفادت كل من الحركتين (الصهيونية واليمينية المسيحية) بما حققته إسرائيل فى حرب الخامس من يونيو، وحملتا مطالبها إلى المجالين السياسى والمدنى الأمريكى.
(2)
ولم تدخر كل من الحركتين جهداً فى تبنى المطالب الإسرائيلية. فعملتا على تطوير وسائلهما. والانتشار القاعدى وسط المحافظين. والتوسع فى تشكيل كيانات مدنية تسلك سلوك جماعات الضغط. والاستفادة من «الميديا المرئية» أفضل استفادة من خلال ما بات يُعرف- تاريخيا- «بالكنيسة المرئية». ما جعل الرئيس جيمى كارتر يقول: «إن القوة اليمينية الإنجيلية هى الآن قوة سياسية رئيسية». ومنذ ذلك اليوم أصبح كل رئيس أمريكى يتعامل مع هذه القوة «ككتلة تصويتية» لا يمكن إهمالها (نستثنى منهم أوباما وبدرجة أقل كلينتون).
(3)
على الجانب الآخر اعتبر تيار الصهيونية السياسية/ الدينية، الانتصار الفكرى لما يروجون له من أفكار فى الحياة السياسية والفكرية الأمريكية أكثر أهمية من تأسيس الدولة اليهودية فى عام 1948. وهو ما عبر عنه كارتر فى خطابه للكنيست أثناء زيارته لإسرائيل فى مارس 1979 بقوله: «حافظ الرؤساء الأمريكيون على العلاقة مع إسرائيل. فهى أكثر من خاصة، إنها علاقة فريدة لأنها متأصلة فى ضمير الشعب الأمريكى نفسه وفى أخلاقه وفى معتقداته. لقد أقام فى كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون رواد، ثم إننا نتقاسم معكم تراث التوراة»، ويعتبر «احتلال إسرائيل للقدس كاملة، تحقيقاً للنبوءة التوراتية».
(4)
ومن أجل حماية هذه العلاقة لعبت عدة منظمات- ولاتزال- دوراً ضاغطاً: سياسياً، وتشريعياً، واجتماعياً. من هذه المنظمات نذكر ما يلى: أولاً: «منظمات اليمين المسيحى» ومنها: «جيرى فولويل مؤسس منظمة الأغلبية الأخلاقية» الذى أعلن «أن الوقوف ضد إسرائيل هو معارضة لله». كما لا يوجد حرج فى الإعلان عن صهيونيته فيقول: «إننى صهيونى، وأؤمن نظرياً ونبوءةً وسياسياً بأن أرض فلسطين والأردن هى للشعب الإسرائيلى، ولا أحبذ أن تتخذ إسرائيل أى قرار بإعادة أى أرض لجيرانها العرب..». كما نذكر أيضا: «بات روبرتسون وشبكة الإذاعة المسيحية ومنظمة التحالف المسيحى» حيث يروجون إلى أن: معارضة إسرائيل أو مصارعتها إنما تعد تحدياً لإرادة الله. وتعد منظمة الائتلاف المسيحى إحدى أهم المنظمات الأصولية فى أمريكا، ولها تأثير سياسى فاعل.
(5)
وتأتى ثانياً: جماعات الضغط المنظمة الصهيونية التى تعمل بشكل رئيسى من أجل إسرائيل والقدس وفق التفسيرات التوراتية. من هذه المنظمات نشير إلى كل من «السفارة المسيحية الدولية». و«مؤسسة جبل الهيكل».. وتشير المصادر إلى أنه وحتى تولى الرئيس بوش، الذى جاء بفضل الكتلة التصويتية الدينية فى 2001، كانت هناك 300 منظمة.. وفى هذا المقام، نشير إلى دور هذه المنظمات وقدرتها فى صياغة التشريع الخاص «بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والإقرار بأنها عاصمة إسرائيل» الذى أقره الكونجرس الأمريكى (قرار بقانون). وصبغه صبغة دينية فى ديباجته: «مدينة القدس هى المركز الروحى لليهودية، كما أنها تعد مدينة مقدسة من قبل الأعضاء المنتمين لمعتقدات دينية أخرى».. ويلاحظ تسمية اليهود فقط وعدم ذكر المسيحية والإسلام. فالتشريع خص اليهودية دون غيرها. نحن إذن أمام حالة تعكس الارتباط الشرطى بين اليهودية الدين «المعرف» والقدس، مما يضمن الوجود الفيزيقى والحضور المادى والحق القانونى لمن ينتمون لليهودية وشرعية التملك والحكم، ولكنها لا تنص على ذلك للآخرين، فالقدس بالنسبة للآخرين مجرد مدينة مقدسة لا تحقق سوى الارتباط الوجدانى.
(6)
ورغم التسويف فى التنفيذ.. جاء ترامب وأقره ليجعل الطروحات السياسية تتلاقى مع التفسيرات الدينية على قاعدة «الوعد والأرض والملك».