من محصلة الدعوة «لإحياء السامية» التى عرفتها أوروبا فى القرن السابع عشر. وتبلور كتلة «الطهريين» المتشددة التى توطنت فى الأرض الجديدة أو «كنعان الجديدة»: «الولايات المتحدة الأمريكية»؛ تم الترويج لفكرتين أساسيتين هما: الأولى: الترويج لضرورة عودة اليهود إلى أرض فلسطين. والثانية: إشاعة الفكرة «الألفية» والتى تمهد لمجىء المسيح الثانى الذى عُرف بالنظرة «الألفية» إلى المستقبل والقائلة بأن العالم كما نعرفه قد أشرف على النهاية وأن ألفا من السنين سيبدأ بعد هذه النهاية. (التى أثرت فى تكون الفكر الأمريكى ورسخت لتيار متشدد دينى تجذر
ونما عبر العصور مثمرا أشواكا مؤثرة نافست بشدة التيارات الليبرالية والدينية المعتدلة، بداية من النصف الثانى من القرن العشرين، كما سنرى لاحقا وهو ما درسناه مبكرا فى كتابنا الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط ــ 2000، حيث رصدنا لليمين الدينى ومساره التاريخى منذ مطلع أربعينيات القرن العشرين خارج الكنائس وتحت مظلة المجتمع المدنى وسلوكه كجماعة ضغط سياسية وككتلة تصويتية).
(2)
وأخطر ما نتج عن الحركتين السابقتين: إحياء السامية، وتيار التشدد الدينى الأمريكى هو: صياغة علاقة لاهوتية مباشرة بتصور دولة يهودية حديثة تتميماً لنبوءة الكتاب المقدس حيث يعود السيد المسيح إلى الأرض كملك لمدة ألف عام «الحكم الألفى» مقيداً إبليس. وقد صارت إنجلترا مركز هذه النزعة التى تزايد نفوذها مع مطلع القرن التاسع عشر. وفى هذا المقام، نشير إلى أنه قد انتشرت عدة اتجاهات تُعبر عن فكرة الملك / الحكم الألفى وذلك كما يلى: أولا: اتجاه عرف باسم «سابقوا الألف». Pre-Millennialism (مذهب السابقية)، وثانيا: اتجاه عرف باسم لاحقوا الألف Post-Millennialism. وثالثا: اتجاه التفسير الروحى.
(3)
ونؤكد أن ردة فعل الكنائس الرئيسية المعتمدة تاريخيا قد أجمعت على رفض ما سبق. وهو ما استقرت عليه الكنيسة الشرقية وأغلب الكنائس الرئيسية فى الغرب: الكاثوليكية والتيار الرئيسى للكنيسة الإنجيلية. حيث عارضت الربط بين إقامة دولة يهودية والتفسير الحرفى للنصوص والتفسير التاريخى للكتاب المقدس وتمييز اليهود الذى يعيد فكرة أنهم المختارون والمدعوون، ذلك لأن: «المسيحية فتحت الباب للجميع والله لا يميز شعباً بعينه».. ونشير هنا إلى كتاب البابا شنودة الثالث: «المسيحية وإسرائيل والقدس»؛ الذى ناقش فيه هذه القضية تفصيلا- المركز القبطى للدراسات الاجتماعية-2001. (وتضمن نص المحاضرات التى ألقاها فى: نقابة الصحفيين 1966 و1972، وندوة القدس التى نظمها الفريق العربى للحوار فى 1996 فى بيروت).
(4)
بيد أن الأخطر فى الاتجاهات السابقة هو الاتجاه الأول أو ما يعرف باتجاه «السابقية» أو سابقوا الألف: «التدبيريون» أو «الحقبيون» أو «الدهريون» Dispensational ؛ كما يعرفون أيضا بـ Pre – Millennialism. حيث يرى أتباع هذا الاتجاه «المسيحية كفرقة من الفرق اليهودية، لذلك يخلطون بين ما هو يهودى وما هو مسيحى وبين الدين والأحداث السياسية». وقد كان لهم تأثير كبير فى قراءة التاريخ قراءة سياسية دينية. ولا تعتبر الكنائس المسيحية القانونية والمعتمدة والتاريخية «تابعو هذا التيار» ــ قولا واحدا ــ «مسيحيون».. (لمزيد من التفاصيل يمكن أن نحيل إلى د.القس مكرم نجيب، المجىء الثانى للمسيح ونهاية التاريخ، دار الثقافة، القاهرة، 1997).
(5)
فى هذا السياق، تبلورت الفكرة الصهيونية فى بعدها السياسى المحض. إلا أنه كان عليها تدعيم دعوتها بمفردات مسيحية. ومن ثم التقت مع التيار «الألفى» الذى التزم التفسير الحرفى المتشدد، المرفوض مسيحيا، حيث انضم إليه لاحقا جماعات لا يُعترف بها مسيحيا مثل: شهود يهوه، والمرمون.. وعليه تبنينا فى توصيف «الصهيونية المسيحية» مصطلح: «الصهيونية ذات التوظيف المسيحى» (راجع دراستنا التفصيلية فى هذا المقام المبكرة). وهى فكرة تسير فى نفس اتجاه ما طرحه الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى موسوعته المرجعية المعتبرة بالأخذ بمصطلح «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» انطلاقا من أن هذه الصهيونية: «غير مسيحية بأى حال، بل صهيونية استمدت ديباجتها عن طريق الحذف والانتقاء من التراث المسيحى دون الالتزام بهذا التراث بكل قيمه وأبعاده. إنها اتجاهات توظف بعض الخارجين عن المسيحية فى تقديرنا». حيث يتلقفها «البعض» ويتداولها عن جهل أو مصلحة.. من هذه الأرضية تم «تسييس» «الصهيوينة ذات التوظيف المسيحى»، وتنوعت حركاتها وتنظيماتها وتحالفاتها.. وهو ما نفصله فى مقالنا القادم.