الصهيونية المسيحية (1) تاريخها ومسارها

كشف كثير من المقاربات لمسألة القدس- إلا فيما ندر- غيبة الإدراك التام للمسألة بمستوياتها المتنوعة. بالرغم من كثرة الدراسات التى تناولتها على مدى عقود. وبالمثل الخلط بين المصطلحات والمفاهيم. والأخطر هو التناقل الآلى- دون تدقيق- فى مدى دقة المصطلح. وهو الدرس الأول الذى تعلمته عندما بدأت فى التعامل مع الشأن الأمريكى فى منتصف التسعينيات، من خلال دراسة قانون الحرية الدينية حول العالم. وهو القانون الذى بموجبه تُعطى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها الحق أن تتدخل فى شؤون دول العالم- عندما تستدعى مصلحتها ذلك- الداخلية.

فلقد فتحت هذه الدراسة آفاقا حول: أولا: كيفية تأسيس أمريكا. ثانيا: مسارها التاريخى. ثالثا: طبيعة العلاقة الوطيدة والوثيقة بين أمريكا الدولة الوليدة وبين «الُطهريين» Puritans؛ (المتشددين المُهجَرين من إنجلترا)، واليهود، ولاحقا مع الصهيونية السياسية بأنواعها. رابعا: الخريطة الفكرية والسياسية الأمريكية. خامسا: دور هؤلاء: المتشددين الدينيين المسيحيين (وقد عرفوا علميا باليمين المسيحى الجديد) واليهود والصهيونيين فى التأثير على السياسة الأمريكية الخارجية بدرجة أو أخرى.. وبالأخير مدى تأثير هذه الكتلة على قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.. (يمكن مراجعة كتبنا: الحماية والعقاب ـ 2000، والأصولية البروتستانتية والسياسة الخارجية الأمريكية ــ 2001، والإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة ــ 2003 ودراستنا الصهيونية ذات التوظيف المسيحى ــ 2004).

(2)

تاريخيا، وفى كلمات موجزة، بدأت القصة من أوروبا بواسطة «الطُهريين».. والطهريون هم التيار الأكثر تشدداً فى البروتستانتية. فقد التزمت التفسير الحرفى المقدسى، حيث اعتبرت التوراة كلمة الله المعصومة. كما اعتبروا الأساطير والنبوءات العبرية تاريخاً، والشريعة الموسوية قانوناً، وعَمدوا أولادهم بأسماء عبرية، وقدسوا يوم السبت، وأدخلوا اللغة والأدب العبريين إلى المدارس، وأصبحت لغة القداس فى الكنائس، وأدخلت فى القداس نصوصاً من التوراة. بل إن العبرية دخلت فى نسيج الحياة اليومية للأمة. رجع الطهريون إلى العهد القديم وأعادوا توظيفه سياسياً خاصة فيما يتعلق باليهود. تماهى، إذن، الطهريون مع الإسرائيليين القدامى فوصفت بريطانيا فى عهد كرومويل (1649-1658) بـ«إسرائيل البريطانية وصهيون الإنجليزية»، ووصف الطهريون أنفسهم بأبناء إسرائيل وطالبوا منذ 1573 بجعل الشريعة الموسوية ملزمة للأمراء المسيحيين.

(3)

وما إن حل القرن السابع عشر بدأ الترويج لدعوة «إحياء السامية» كما سماها المؤرخ اليهودى سيسيل روث، وكان مضمون هذه الدعوة ما يلى: التعاطف مع اليهود. والخجل مما عانوه فى الماضى. والأمل فى تحقيق نبوءة عودة اليهود إلى فلسطين.. ما أدى إلى الضغط على الحكومات فى: أولا: إمكانية قبول التفسير اليهودى للعهد القديم، ولاسيما التفسير المتعلق بمستقبل استعادة اليهود لفلسطين. وثانيا: إقناع طلبة الجامعات والباحثين بأن كلمة إسرائيل الواردة فى العهد القديم تعنى كل الجماعات اليهودية فى العالم. وثالثا: قبول التفسير بارتباط زمن نهاية العالم بعودة المسيح الثانية، وأن هذه العودة مرتبطة بمقدمة تشير إلى عودة اليهود إلى فلسطين (راجع بحث السير هنرى فنش المستشار القانونى لملك إنجلترا ونشره عام 1621 بعنوان الاستعادة العظمى العالمية The World’s Great Restoration).

(4)

هاجر هؤلاء «الطهريون» ــ من ضمن الأوروبيين الذين هاجرواـ إلى أمريكا التى تم اكتشافها آنذاك، حيث حملوا معهم التقاليد والقناعات التوراتية. ولأنهم رأوا فى القارة الجديدة «إسرائيل الجديدة»، أعطى المهاجرون الأوائل أبناءهم الذين ولدوا هناك أسماءً عبرانية، كذلك المستوطنات. وفرضوا تعليم اللغة العبرية فى مدارسهم وجامعاتهم. حتى إن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد فى العام 1642 كانت بعنوان: «اللغة العبرية هى اللغة الأم».. وأرادوا جعل أمريكا: «النموذج الروحى للعهد القديم العبرى».. كما سُمح لليهود بإقامة معابدهم قبل المسيحيين.. فقد أصبحت أمريكا «كنعان الجديدة». فهم فروا مثل قدامى العبرانيين من عبودية فرعون (الملك جيمس الأول ملك إنجلترا) بحثا عن ملاذ فى الأرض الموعودة.

(5)

استمر تأثير هذا التوجه فى الثقافة الأمريكية. وهو توجه رفضته المذاهب المسيحية فى المجمل. لأنه يعيد تفسير المسيحية وفق الطبعة التوراتية. لذا يميز الباحثون بين المذاهب المسيحية الرئيسية وكنائسها المتنوعة: الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانتية (الإنجيلية) وبين «الطُهرية» المتشددة المتهودة.. إلا أن الطُهرية المبكرة والتى نمت نموها الحقيقى فى أمريكا كانت بمثابة الحاضنة الثقافية التى خرجت منها الصهيونية الدينية ثم الصهيونية السياسية لاحقا.. كيف؟...

نجيب الأسبوع القادم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern