«المتمسكون بالحوار، إلى الآن، هم استشهاديون»؛.. عبارة تكررت كثيرا سواء فى الحوارات العامة أو «الكواليسية» من الجولة الحوارية الخامسة للحوار الدنماركى العربى الذى عُقد فى بيروت الأسبوع الماضى بدعوة من منتدى التنمية والثقافة والحوار الذى يقوده الدكتور القس رياض جرجور، أحد دعاة الحوار المخضرمين ــ الاستشهاديين ــ والذى شغل موقع الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط فى الفترة من 1995 إلى 2003، بالاشتراك مع الإرسالية الدنماركية ومجلس الاتصال الدنماركى الإسلامى ـ المسيحى الذى يضم:
مجلس الكنائس الوطنى الدنماركى ومجلس مسلمى الدنمارك بالاشتراك مع الفريق العربى الإسلامى ــ المسيحى. عقدت من قبل أربعة لقاءات (اثنان فى 2012، وواحد فى 2014، وآخر فى 2016). عقدت اللقاءات فى وقت حرج وفى ظل علاقات معقدة وشائكة بين المنطقة وأوروبا بشكل عام، والمنطقة والدانمارك بشكل خاص بسبب رسوم الكارتون المسيئة الشهيرة.
(2)
وعلى المستوى الشخصى، فاتنى، رغم دعوتى، المشاركة فى اللقاءات الأربعة السابقة نظرا لانشغالى فى مهام متعاقبة بعد 25 يناير من جهة. ومن جهة أخرى، يقينى أن العملية الحوارية بعد الحراكات «العربية تحتاج إلى تجديد. خاصة أن هناك من اختبر الحوار عمليا من خلال «الميدان»، وظنهم أننا لم نعد نحتاج، بعد، إلى حوارات نظرية نخبوية. بقدر ما أننا فى حاجة إلى دعم التواصل الحى بين المواطنين على اختلافهم من أجل العمل المشترك لبناء الأوطان. وفى نفس الوقت وبسبب اشتداد تزايد الموجات الإرهابية فى الداخل العربى ودول أوروبا. نجد أن آخرين قد كفروا بالحوار ظنا منهم أنه لم تعد له فائدة فى ظل الحضور «الداعشى» وتنويعاته وامتداداته المدمرة. وبات لسان حالهم هو: «أى حوار يمكن أن ينطلق فى ظل سياق إقصائى ودموى»..
(3)
وهكذا تبدو اللحظة التاريخية غير مواتية للحوار.. ولكن بالعودة لنتائج اللقاءات الأربعة لفاعليات الحوار الدنماركى العربى نجد الحضور قد اتفقوا وتوافقوا على أن «الحوار سيظل ضرورة وحاجة إنسانية».. ففى الحالتين: تحقيق قدر من النجاح فى التواصل المجتمعى بين المختلفين. أو النزوع إلى الانكفاء نتيجة الإقصاء الدموى.. هناك حاجة ماسة إلى الحوار. سواء من أجل تدعيم الشراكة الوطنية أو وقف الحالة الاقصائية.. فلقد فرض «السياق التاريخى المتحول» الذى طال العالم والمنطقة نفسه. حيث أطلق العديد من الأسئلة الجديدة غير التى تم طرحها فى أروقة الحوار التاريخية. أسئلة من عينة: «مدى مسؤولية الدين فى دعم الإرهاب ولماذا؟ وكيفية أن يلعب دورا فى حل إشكالية الإرهاب؟ ومن قبل ما العوامل التى تؤدى إلى وجود تطرف فى المجتمع؟ كيف يمكن توسيع دائرة الشراكة فى مواجهة التطرف؟ وما هى أنواع النزاعات التى تتسبب فى تفرقة المجتمعات قسرا؟ وما آثار الهجرة على التركيبة المجتمعية فى دول أوروبا؟ ولماذا تزايد الخوف من الآخر؟ وكيف يمكن العيش المشترك التعددى مع تزايد الشعور القومى فى بعض الدول؟ كيف يمكن إبراز غنى التعددية فى المجتمع؟ وتدعيم خيارات الأفراد؟».. إلخ.
(4)
ما سبق من أسئلة وغيرها يحتاج إلى إجابات معُمقة، خاصة أن الواقع ليس ساكنا. والسياق التاريخى الراهن هو فى حالة تحول غير مسبوقة. ومن ثم فالواقع الذى بدأت فى إطاره الحوارات الفكرية ــ تاريخيا ــ بأنواعها لم يعد قائما. فهناك واقع جديد قيد التشكل ومن ثم يحتاج إلى حوارات مستمرة وممتدة بحكم الأسئلة الجديدة المطروحة والاجتهادات المبتكرة المطلوبة. وبما أننا فى سياق متحول فإن الأمانة تلُزمنا أن نراجع أنفسنا وأن نعالج ما يمكن تسميته «جروح الحراك» التى أصابتنا وأصابت علاقتنا بأوروبا. وتجاوز «هنات الحوار» التى تراكمت على مدى عقود من الحوار. وذلك من أجل مستقبل أكثر تعايشا.
(5)
فى هذا المقام دارت فعالية اللقاء الذى بدأ بمجموعة من الزيارات الميدانية لألوان الطيف اللبنانية التى تزود المشاركين بنبض الواقع. ثم بدأت أعمال اللقاء والتى تمحورت حول المستقبل.. مستقبل الحوار والعلاقات بين الغرب والعرب.. وجاءت أهمية اللقاء فى أن المشاركين قد تمسكوا بالحوار وسيلة وأداة لحل الإشكاليات والنزاعات مشدودين إلى المستقبل الأفضل للجميع.