«الإرهاب بارد. ولا يتدفأ إلا بالبرودة القصوى: الموت».
(2)
تكشف عملية «مسجد الروضة» الوحشية ومن قبلها «الواحات»، ومن قبلهما حادث كنيستى طنطا والإسكندرية، والعمليات النوعية والمتنوعة تجاه مدنيين وعسكريين، سواء فى الأطراف أو فى المراكز- أن مصر بكل مكوناتها مستهدفة.
مصر المركب الحضارى بعناصره: المسيحية والإسلامية وثقافته الحديثة المتعددة المستويات. ومصر الدولة والمجتمع. ما يعنى «تقييد» الأمل فى أى نهوض. فعندما يُرتهن شعب لصالح مقاومة الإرهاب يعنى إعاقته ومنعه وتعطيله فى تحقيق ما يصبو إليه. ويصبح «التقدم» مؤجلا.. وأظن هذا هو المستهدف من هذه العمليات الإرهابية الخسيسة.. فكيف التقدم والخراب منتشر.. والإرادة مهزومة.. والقدرة عاجزة.. ويصبح ما تتعرض مصر له هو قدر لا فكاك منه، مثل قدر الأساطير اليونانية.
(3)
ولكن ما لا يعرفه الإرهابيون أنه «ياما دقت على رأس المصريين طبول».. وأن لدى المصريين من «الخبرة التاريخية» ما مكنهم- ويمكنهم وسيمكنهم- فى لحظات الخطر من التضامن لمواجهة الحكم الوافد، والمستعمر منذ البطالمة.. إنها الخبرة التاريخية التى أصبحت تعنى عند المصريين «دون أعداء، لا تُطاق الحياة» (حسب أحد الشعراء).. ومن ثم ينتفضون ويجتمعون ويقاومون كل من يتجرأ على مصر والمصريين.. مصر الدولة العريقة منذ القدم.. والمصريون الشعب الذى مر عليه أشكال وألوان من صنوف الحكم. الذى متى آمن بضرورة الحفاظ على مقوماته وسلامته، اُستنفر، وبذل الدم من أجلها.. ويقول «أهلا بالمعارك».. وكأن لسان حاله بحسب أحد الأدباء: عندما يؤمن الشعب بحقيقة واحدة، فذلك يعنى أن هذه الحقيقة ليست إلا دما.. حيث- تجاوزا- يعتبر الحياة لا تطاق دون أعداء.
(4)
إنها لحظة حق وحقيقة، الحق التاريخى فى أن نتقدم، وأن نحقق مجتمع الحرية والعدالة. وهو أمر لا يمكن التنازل عنه، مهما كانت التكلفة، والتحديات، والأخطار، والتهديدات.. وحقيقة أن هذا الإرهاب قد كشف عن وجهه الحقيقى بكراهيته لجميع المصريين دون تمييز. كذلك حقيقة (بل أكذوبة) أنهم يملكون الإيمان الصحيح وفق صحيح الدين ما يشرعن، ويبرر لهم من يستحق العيش، ومن يستوجب عليه حكم الموت/ القتل.. وأذكر هنا قول أدونيس: ليس هناك ما هو أكثر جحيمية من أن يقتل إنسان إنسانا آخر، لا لشىء إلا لكى يدخل الجنة!.. بلغة أخرى: قضى الأمر، ولم يصبح أمامنا إلا الاستجابة التاريخية للحظتى الحق والحقيقة.. كيف؟
(5)
أظن أنه علينا أن نخوض معركة على جبهتين. الأولى: الجبهة العسكرية سواء فى الحدود أو فى المراكز المصرية. وهى معركة نترك تفاصيلها لأصحابها. أخذا فى الاعتبار أن هناك تفويضا وطنيا وشعبيا بالقضاء عليها. والثانية: الجبهة المدنية الداخلية والتى تتحمل فيها النخبة الثقافية والسياسية والإدارية والفنية المسؤولية الكبرى فى خوضها. وذلك من خلال: أولا: إشاعة ونشر ثقافة دينية تعبر عن رحابة الخبرة المصرية فى التعددية.
والأخذ بالفقه واللاهوت الأعلى سقفا وتيسيرا والدافع للتقدم. ثانيا: تنقية الحياة الثقافية المصرية من الفتاوى السوداء الإقصائية والتكفيرية والتحريضية والتدميرية. ثالثا: تفكيك الفكر المحافظ الذى يروّج لكل ما هو متخلف وسخيف تحت شعارات التقاليد والعادات، وهى فى المجمل وافدة، ولا تعبر عن الثقافة المصرية. إنها محافظة زائفة تخفى مصالح معادية لمصر. وتخلق خصومة كاذبة بين الدين والعقل. وفى أحسن الأحوال لا تعتمد إلا تصورا أحادياً للحياة والمجتمع.
الخلاصة: مواجهة كل ما يخاصم العصر، والعقل، والحداثة، والتحضر، والمدنية، وإعمال القانون، هذا ما يلزم أن نعمل على تحقيقه من خلال شراكة وطنية وثقافية وحدت بينها الشهادة على قاعدة المواطنة.
(6)
عند كتابة هذه السطور كان الراديو يذيع أغنية وطنية غاية فى العذوبة والقوة فى آن واحد، للراحلة أم كلثوم تشدو فيها:
أجل إن ذا يوم لمن يفتدى مصر
فمصر هى المحراب والجنة الكبرى
حلفنا نولى وجهنا شطر حبها
ونبذل فيها الصبر والجهد والعمرا.